غير أن أتباع مذهب مالك ما لبثوا أن عادت لهم الكرة حين ضعفت دولة بني عبيد، بعد أن كان لهم في مقاومتها والصبر على شرها اليد الطولى، ولهذا وقفوا إلى جانب أبي يزيد الخارجي مخلد بن كداد صاحب الحمار، لما أظهر الميل إلى السنة مخادعا، رغم ما بين منهجهم ومنهجه من المخالفة، فعلوا ذلك هربا من شر أعظم، أقله أن منعوا من التدريس والإفتاء، بيد أن صاحب الحمار هذا ما ألان لهم الجانب وأظهر اتباع السنة إلا للكيد والمكر، ولذلك أوعز إلى المقاتلين من أتباعه أن يسهلوا مهمة العبيديين في قتل الكثير ممن خرج من أهل السنة لمناصرته، فمات منهم خلق في الحرب على أبواب المهدية، حتى إذا أظهر نزعته الخارجية وكيده لهم صراحة انقلب الأمر وتغير الحال، وسبحان مقلب الأحوال.
ولما انتقل بنو عبيد إلى مصر وتركوا على إفريقية عمالهم من أبناء زيري بن مناد الصنهاجي؛ شجع الفقهاء الزيريين على الاستقلال عن العبيديين، فلما أعلن الانفصال عنهم المعز الصنهاجي عادت للمالكية مكانتهم التي فقدوها؛ فجاء عهد الانتقام من الباطنية الذين بقوا في البلاد، حتى قيل إنه قتل بكل سني واحد منهم.
وقد سكت العبيديون في مصر عن المالكية أول الأمر، للتمكين لحكمهم في بداية أمره كما يفعل الحكام عادة في كل زمن، ومصر بلد يغلب عليه أهل السنة من المالكية والشافعبة، فلما كان عهد الحاكم بأمره تتبع المالكيةَ وقتل بعض قضاتهم، وتجددت المحنة، ولم تقتصر سياسة العبيديين على الاضطهاد، بل تجاوزوا ذلك إلى تمكين النصارى من رقاب المسلمين حتى قال القائل كما في خطط المقريزي:
إذا حكم النصارى في الفروج … وغالوا بالبغال وبالسروج
وذلت دولة الإسلام طرا … وصار الأمر في أيدي العلوج
فقل للأعور الدجال هذا زم … انك إن عزمت على الخروج
ومع هذا الوضع الذي كان أهل السنة يعيشونه في بلاد المغرب الأدنى وحاضرتها مدينة القيروان التي كانت تسمى إفريقيا لأهميتها؛ فإن نشاط العلماء لم يفتر، ولم تنقطع