للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرحلة في طلب العلم من القيروان إلى المشرق وإليها، وكانت هذه الرحلات بالإضافة إلى المراسلات وحركة الناس مع الجيوش الفاتحة من وسائل نقل ما كان المشرق سابقا فيه من علم الكلام الذي كان أثر فلسفة اليونان وبعض ما كان عليه الفرس وغيرهم، وكذا منهج الاعتزال وغير ذلك من أفكار الجماعات والفرق، بل كان من أهل المغرب من امتحن بمسألة خلق القرآن كما امتحن بها الإمام أحمد وغيره في المشرق، ومنهم سحنون بن سعيد آخذ المدونة عن عبد الرحمن بن القاسم، وستقف على شيء من هذا الذي كان يعتلج في هذه البلاد حين تعرف بعض تآليف ابن أبي زيد التي كانت رد فعل على هذا الذي طرأ.

ويكفي أن تستعرض حياة المترجم له ونشاطه العلمي، ورحلته ورحلة الناس إليه لتأخذ صورة عن هذا الدأب العلمي الذي لم يتأثر بالفتن التي كانت تجتاح المنطقة، لاسيما والمؤلف قد عاصر العبيديين في المدة التي كانوا يمارسون الحكم فيها بأنفسهم، إن أهل العلم خير من يفقه أن الفتن ليست مبررا للانقطاع عن نشر العلم، فإنها لا تمد في الأعمار، ولا تمهل بها الآجال، ثم إن العلم من أعظم العبادات، والعبادة في الهرج كهجرة إلى النبي .

ومن الجائز بعد أن عرفت وضع عصر ابن أبي زيد السياسي باختصار أن تتساءل عن موقفه من دولتي العبيديين والخوارج؟، لا سيما والرجل لم يظهر على الأحداث السياسية والجهادية ظهور بعض شيوخه ومعاصريه، وقد كان بلا ريب على علم بما يجري، فقد شهد ما حصل لبعض شيوخه، فإن أبا بكر بن اللباد، وهو أكبرهم قد تعرض لأذى بني عبيد والخوارج، فامتحن بالضرب والسجن، وبعد خروجه لزم بيته، وأغلق عليه بابه، وقد قال القاضي عياض في ترجمته فكان «لا يسمَع إلا في خفية، وكان ربما خرج إلى المسجد، فيأتي الطلبة إلى بابه، فتفتح لهم خادمه، فإذا اجتمعوا أتته، فيدخل وتغلق عليهم فيقرأون، وكان منهم أبو محمد التبان، وابن أبي زيد ، وغيرهم، وكانوا ربما جعلوا الكتب في أوساطهم حتى تبتل بعرقهم، فأقاموا على ذلك إلى أن توفي»، انتهى.

<<  <  ج: ص:  >  >>