وفي الآيتين دليل بين على خلق الله تعالى أفعال عباده، ووجه الدلالة أنه سبحانه أخبر أن ما يُسره الإنسان ويجهر به هو سواء في علمه، لأنه عليم بذات الصدور، أي بما فيها مما يسره الإنسان ويخفيه، ثم قال:«ألا يعلم من خلق»، فدل السياق على انصراف العلم هنا بالأولوية إلى ما ذكر قبله، وإن كان علم الله عاما محيطا بكل شيء، والمذكور قبله من أفعال العباد، وهو ما يضمرونه ويسرونه، وقد احتج سبحانه على علمه بما يسره الناس ويجهرون به؛ بكونه خالقا، فلو لم يدخل الذي يسرونه في جملة مخلوقاته لما كان لهذا الاحتجاج معنى.
وقد تنبه القاضي عبد الوهاب عليه رحمة الله لهذه الدلالة في الآيتين فقال: «أخبر أنه يجب أن يكون عالما به من حيث إنه كان خالقا له، فدل ذلك على أنه هو الخالق لإسرارهم وجهرهم، ولا يجوز أن يحمل على أنه هو الخالق لمحل كلامهم، لأن خلق موضع السر ومكانه لا يدل على علم خالقه بما يفعل فيه، كما لا يدل بما زيد للدار (كذا) على علمه بما يودع فيها.
وهذا وجه دقيق في الاستدلال، غفل عنه العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور حين قرر أن الآية فيها دليل على عموم علمه تعالى، ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة»، انتهى، وما قاله صحيح، لكن الآية تدل عليه بقرينة السياق كما علمت، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فكيف بما كان منه في سياق واحد؟.
وقال أبو الحسن في الوجه الأول: التقدير ألا يعلم الخالق مخلوقه أو خلقه، والخلق عام فيمن يعقل ومن لا يعقل، هذا قول أهل السنة، وقالت المعتزلة:«من في موضع نصب، أي ألا يعلم الله من خلق، ومن لمن يعقل، فإن الله يعلم عباده دون أفعالهم، تعالى الله عما يقولون»، انتهى.
قلت: جوز الزمخشري كلا من الوجهين، بل قدم في الذكر الوجه الأول الذي نسبه أبو الحسن إلى أهل السنة، والخير للناس أن يكفوا عن الجدال بالباطل الذي قد يدفعهم إلى أن يحملوا كلام الله ما لا يحتمل من مذاهبهم ونحلهم، والمعروف عن المعتزلة أنهم لا ينفون علمه تعالى بأفعال عباده قبل وقوعها، وإنما ينفون خلقه تعالى لأفعالهم الاختيارية،