فظهرت البدعة، وامتحن أهل الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، وتولدت الشبه»، انتهى.
وما نهى عنه السلف كما علمت من كلام مالك وغيره، وما علل به ذلك القاضي عبد الوهاب وغيره قد وقع فيه بعضهم في هذا الزمان الذي كثرت فيه المساجلات والمناقشات في القنوات الفضائية بين أهل السنة والشيعة وغيرهم، ولاحظت أن ذلك أورث بعض المستمعين غبشا في الرؤية، وتمكينا لبعض الشبهات في أنفسهم، وأصحاب الأهواء يسرهم أن يجادلهم أهل الحق لأن الجدال وسيلتهم إلى إشاعة باطلهم في الناس، ولاسيما إذا كان الذين يجادلونهم من أهل العلم المعروفين، ويكفيهم أن يحصلوا على أقل القليل من تنازلهم كما يظنون، فالخير كله في الحد من هذه المجادلات، والاكتفاء بتعليم الناس العقائد الصحيحة، والمناهج السديدة، لتحصينهم مما يراد بهم، ولا بأس بالتعرض للنصوص التي يتكئ عليها أهل الأهواء لبيان معانيها الصحيحة ومحاملها المقبولة، وهكذا بيان الوقائع التاريخية وتقريب حقائقها إلى الناس حتى لا يكونوا فريسة التزيد والافتراء، وقد ذكر القرطبي في تفسيره (٧/ ١٣٩) عن سهل قال: «إنما ظهرت البدعة على يد أهل السنة لأنهم ظاهروهم وقاولوهم، فظهرت أقاويلهم وفشت في العامة، فسمعه من لم يكن يسمعه، فلو تركوهم ولم يكلموهم لمات كل واحد منهم على ما في صدره، ولم يظهر منه شيء وحمله معه إلى قبره»، انتهى، لكن هذا في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه هذه الوسائل التي غزت البيوت.
ومن دعاء النبي ﷺ:«اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت،،، الحديث»(١)، في هذه المقاطع كلها قدمت حروف الجر ومجروراتها على متعلقاتها، مما يشعر بإرادة التخصيص، وإفادة الحصر، أي لا أخاصم إلا فيك، ومن أجلك، أو إنما أخاصم بما أعطيتني من البرهان، ولقنتني من الحجة.
(١) رواه مسلم وأبو داود (٧٤٥) والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس.