وقال مبينا بعض ما قام به هؤلاء الأئمة:«فجمعوا أقاويل الجميع، وحفظوا فقههم، وبحثوا عن اختلافهم واتفاقهم، وحذروا انتشار الأمر، وخروج الخلاف عن الضبط، فاجتهدوا في جمع السنن، وضبط الأصول، وسألوا فأجابوا، وبنوا القواعد، ومهدوا الأصول، وفرعوا عليها النوازل، ووضعوا في ذلك للناس التصانيف وبوبوها، وعمل كل واحد منهم بحسب ما فتح عليه ووفق له، فانتهى إليهم علم الأصول والفروع، والاختلاف والاتفاق، وقاسوا على ما بلغهم ما يدل عليه ويشبه، رضي الله عن جميعهم ووفاهم أجر اجتهادهم … ».
والجانب الذي عني به هؤلاء الأئمة وغيرهم من الفقهاء هو قطب الرحا في الدين بعد صحة العقيدة وسلامتها، فإنه هو الأحكام العملية من الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات والمباحات ورخص الأحكام وعزائمها، وصحيح العقود وفاسدها، وبه تكون أعمال المسلمين على وفق ما شرع الله لهم، ومعرفة هذه الأحكام والعمل بها والدعوة إليها والصبر على ما يعترض المؤمن في الطريق إلى ذلك كله؛ هو المعيار الذي يقاس به صدق عقيدته وصحة إيمانه ورسوخه في نفسه، وما عدا ذلك مما جاء في هذا الدين إنما هو وصف للقائمين بهذه الأحكام، وما يستحقونه بفضل الله عليها في الآخرة، وما وعدوا به من التمكين في الحياة الدنيا إن هم نصروا الله بالتزامها.
ويندرج في هذا الحفظ فتاوى العلماء التي هي حصيلة معرفة أحكام الله تعالى من أصولها المقررة، ما اتفق عليه العلماء منها، وما اختص به بعضهم دون بعض، ثم معرفة الوقائع بالوقوف على الأشياء المستفتى فيها، ثم تنزيل أحكام الله تعالى عليها وبيانها، وبهذا كان الإفتاء من ضروب الحفظ العملية لهذا الدين إذ به يواكب هذا الدين الخاتم تطور الحياة ومستجداتها ببيان أحكام الله للناس كي يلتزموها، لا فرق بين ما عرف من قبل منها وما جد من الوقائع والنوازل، وهذا العصر لا نظير له فيما يعترض القائمين على الفتوى من الصعاب والمشاق بسبب صدود الحياة العامة عن الصراط المستقيم وانقلاب الفقه من منزلته قائدا للحياة ورائدا إلى ما هو عليه اليوم من جري أصحابه وراء الحياة الناكبة يلتمسون الحلول للناس فيما يستجد من النوازل الناشئ معظمها عن المخالفات.
وقد جانب الصواب في شأن الفقه المذهبي فريقان من الأمة: أحدهما هو الجافي