سورة البقرة [٢: ١١٢]
{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}:
{بَلَى}: للإضراب الإبطالي؛ إبطال ما قالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}.
{بَلَى}: حرف جواب، لإثبات ما نفوه؛ لن يدخل الجنة إلّا من أسلم وجهه لله، وهو محسن.
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: من شرطية.
{أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: إسلام الوجه هو أعلى درجات الإيمان، وهي بالتدرج: الإسلام، الإيمان، التقوى، والإحسان، ثم إسلام الوجه.
وإسلام الوجه: يعني: إسلام كل الجوارح، وخصَّ بالوجه؛ لكونه أشرف الأعضاء في الإنسان، وإسلام الوجه؛ يعني: الإخلاص لله وحده، وطاعته الكاملة، وقوله: {لِلَّهِ}: وليس إلى الله، اللام؛ تعني: الوصول، والاستقامة، وإلى؛ تعني: ما زال سائراً في الدرب للوصول إلى إسلام الوجه، والإخلاص. انظر إلى المقارنة القادمة في نهاية الآية.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ}: هو ضمير منفصل، يفيد التّوكيد.
{مُحْسِنٌ}: اسم فاعل، من فعل: أحسن؛ الرباعي، والإحسان مصدر.
وتعريف الإحسان: الإحسان لغةً: هو ضد الإساءة، ويقال: أحسنت الشيء؛ أي: جمَّلته وزيَّنته (كما قال ابن منظور في لسان العرب، وابن فارس في معجم اللغة)، فالإجمال: هو الإحسان الظاهر، وقيل: أحسن أتى بفعل حسن، وأحسن إلى فلان؛ أي: نفعه؛ أي: هو النفع الحسن، ويشمل الأقوال والأفعال والأحوال، وكما قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: ٢٢].
الإحسان اصطلاحاً وشرعاً: فلا يوجد أجمل وأروع من تعريف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للإحسان حين سأله جبريل -عليه السلام- فقال:
١ - أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك؛ أي: أن تحسن في أداء الأحكام، والعبادات، والفرائض، والنيات، والمقاصد، والأحوال، والمعاملات، والتقرب إلى الله تعالى، والإحسان إلى الوالدين، وذوي القربى، والخلق أجمعين، وإلى النفس، وإلى كل شيء، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء حتى على الحيوان والنبات والشجر والجمادات والبيئة حتى العدو»؛ يعني: تتقن الأداء إتقاناً جيداً، وتخلص في العبادة المبنية على الحب والذل لله تعالى، والتي تشمل كل أوجه الحياة، ولا تقتصر على العبادات المعروفة، وهذا يسمى؛ إحسان الكيف.
٢ - وأن يزيد المؤمن في أداء هذه التكاليف، فوق ما فرض الله، مثل: النوافل، والصدقات، وصيام النفل، وكل شعب الإيمان، وهذا؛ يسمى: إحسان الكم.
ووجوه الإحسان كثيرة، مثل: الإنفاق في المال، وتشفع لغيرك، والإحسان بالعلم، وإعانة الضعيف، وتفريج الكرب، وغيرها، والإحسان الأفضل أن تفعله، وأنت محب له، وليس كارهاً أو مجبراً.
وحين تدخل في مقام الإحسان، فأنت تصبح من أولياء الله تعالى، وكما قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
{فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ}: الفاء: للتوكيد. {أَجْرُهُ}: ارجع إلى الآية (٦٢) في نفس السورة لبيان معنى الأجر.
{وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}: ارجع إلى الآية (٣٨) من سورة البقرة للبيان.
ولنقارن هذه الآية (١١٢) من سورة البقرة، مع الآية (٢٢) من سورة لقمان، وهي قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}.
وآية سورة النّساء (١٢٥): {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}.
في آية لقمان، نجد فيها: {يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}؛ أي: لا يزال بحاجة إلى مزيد من التقوى، والإخلاص، فهو لا يزال في طريقه الموصل إلى درجة الإحسان.
في آية سورة البقرة: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}: هذا وصل إلى درجة الإحسان، وأصبح من المحسنين، {وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
في آية النّساء ليس هناك أفضل منه ديناً. ارجع إلى سورة النساء آية (١٢٥)، وسورة لقمان آية (٢٢) لمزيد من البيان والفرق بين الآيات.