للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة لقمان [٣١: ١٤]

{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ}:

قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (٨) لمعرفة أسباب النزول.

{وَوَصَّيْنَا}: بدلاً من: ووصى لقمان ابنه.

أراد ربنا أن يوصي بالوالدين بنفسه هذه الوصية لكل إنسان، وهذا يدل على أهمية هذه الوصية وعظيم شأنها.

{وَوَصَّيْنَا}: عهدنا فيها معنى التكليف والإلزام، وهي بصيغة الجمع والتعظيم.

وصّينا بالتشديد، ولم يقل وأوصينا، ووصّينا من فعل وصّى؛ للمبالغة في الوصية فيها حثٌّ واهتمام وتوكيد من فعل أوصى بمعنى: طلب منه؛ أي: ترك له وصية، فأوصى تستعمل في الأمور المادية.

وصية في أمور الدين مثل التوحيد والإحسان إلى الوالدين، وفيها تكليف، بينما أوصينا بدون تشديد وتستعمل غالباً في المواريث كقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ} [النّساء: ١١]؛ ارجع إلى سورة النساء آية (١١) لمزيد من البيان في أوصينا ووصينا. وإدراج الوصية بالإحسان للوالدين بعد النهي عن الشّرك في كثير من الآيات يدل على أهمية الإحسان إلى الوالدين وصلة الرحم. ارجع إلى سورة العنكبوت آية (٨) لمزيد من البيان، والمقارنة، وتكررت آية {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} في ثلاث آيات هي: سورة العنكبوت آية (٨)، ولقمان آية (١٤)، والأحقاف آية (١٥)، واقترنت بالوالدين إحساناً بعبادة الله في أربع آيات: في سورة البقرة آية (٨٣) وهي قوله تعالى: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وفي سورة النساء آية (٣٦) وهي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وفي سورة الأنعام آية (١٥١) وهي قوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْـئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وفي سورة الإسراء آية (٢٣) وهي قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

{بِوَالِدَيْهِ}: الباء للإلصاق؛ أي: دائماً وبشكل مستمر.

بوالديه: مشتقة من الولادة؛ أي: اللذين ولداه وللتذكير بحسن الصحبة التي تكون للوالدة غالباً، ولم يقل بأبويه؛ لأن الأبوين قد تطلق على الأبوين من التربية أو تطلق على الجد أو على العم، وكلمة الأبوين تستعمل في المواريث مثلاً وغيرها.

{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}: لم يذكر في هذه الآية ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً أو حسناً وحذف (كلاهما) لأنه سيذكر بعد قليل: (أن اشكر لي ولوالديك) والشكر يدل على الإحسان أو يقوم مقام الإحسان.

{وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}: الوهن هو الضعف، هو يعني: وهن مستمر، وهن الحمل الّذي يستمر حتى الولادة فكلما نما الجنين وكبر استمد من أمه ما يحتاجه للنمو وشاركها في غذائها وما تصاب به من تعب وإعياء واختلاطات الحمل وهكذا حتى يولد، وبعد الولادة يأتي وهن الرضاعة والسهر عليه وتربيته، وهكذا وهن على وهن.

وفي آية الأحقاف (١٥) قال: (حملته كرهاً ووضعته كرهاً). ارجع لآية الأحقاف للبيان.

{وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ}: أي فطامه في عامين (٢٤ شهراً). ولم يقل سنتين، لأن القرآن يستعمل العام في سياق الخير والبركة، والسنة تستعمل للشدة والضيق، وفي آية الأحقاف (١٥) قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}.

فإذا طرحنا (٢٤) شهراً من ثلاثين شهراً يكون الفرق بينهما (٦) أشهر وهذا يدل على أن الجنين قابل للحياة بعد (٦) أشهر فقط من الحمل. ويحتاج طبعاً إلى المساعدة والرعاية الطبية الخاصة، وهذا من بينات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم الدالة على أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى.

{وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ}: في ظرفية؛ تعني: في يد الأم فقد يحدث الفطام أو الفصال قبل عامين، ولم يذكر مدة الحمل؛ لأن ذلك ليس بيدها فقد تزيد أو تنقص والكل يعلم أنها حوالي (٩) أشهر، وبهذه الآية نعلم أن مدة الحمل بين (٦-٩) أشهر.

{أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ}: أن: مصدرية تفيد التّعليل والتوكيد.

والشكر قلنا: قام مقام الإحسان فلا داعي لذكر الإحسان والشكر معاً، ولذلك اقتصر على الشكر في هذه الآية وبينه في الآيات الأخرى المماثلة.

{أَنِ اشْكُرْ لِى}: أي اشكر المنعم الوهاب أولاً وهو الله تعالى، والشكر باللسان والعمل معاً شكر المنعم على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى، وشكر دائم يتجدد ويتكرر طوال الحياة، وجاء بصيغة الإفراد {اشْكُرْ لِى}، بينما {وَوَصَّيْنَا} بصيغة التعظيم؛ لتدل على الوحدانية وعدم الشّرك أو الرياء. ارجع إلى سورة الأعراف آية (١٠) لبيان معنى الشكر.

{وَلِوَالِدَيْكَ}: شكر الوالدة والوالد يكون بالإحسان إليهما وطاعتهما، واللام في كلمة (لوالديك) للتوكيد.

{إِلَىَّ الْمَصِيرُ}: المرجع والمآل، تقديم (إلي) يدل على الحصر؛ أي: اعلم أن مصيرك ورجوعك إليّ فقط، وهذا يدل على البعث وإثبات المعاد.

وتعني كذلك: واحذر وصيتي واعلم أن مصيرك إليّ {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإسراء: ٢٣-٢٤].