سورة النساء [٤: ٩٤]
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}:
سبب النزول: روى البزار، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية فيها المقداد بن الأسود، فلم أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فعمد إليه المقداد فقتله، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرنَّ ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قدِموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله: إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله؛ فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد، فدعوه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: يا مقداد أقتلت رجلاً يقول: لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟ قال: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ}.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، و {أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ}: يعني: جاءكم مستسلماً، أو قال الشهادة، أو كلمة التوحيد، فليس من حق أحد أن يلقي إليه الاتهام بعدم الإيمان، والإسلام، ويقول له: لست مؤمناً.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: نداء إلى الذين آمنوا؛ أيْ: الذين هم على درب الإيمان بأمر جديد، أو حكم، أو وصية، أو موعظة.
والهاء: للتنبيه.
{إِذَا}: شرطية، ظرفية للزمن المستقبل، وتدل على حتمية الحدوث.
ضربتم في سبيل الله: أيْ: خرجتم للجهاد، أو إعلاء كلمة الله، ونشر الدِّين، أما الضرب في الأرض، فيكون للتجارة، أو العلم، أو غيره.
{فَتَبَيَّنُوا}: الفاء: رابطة لجواب الشرط (إذا). تبيَّنوا: تثبتوا، وتحققوا، ولا تتسرعوا، والتبيُّن: هو التثبت، والتبيُّن يحتاج إلى ذكاء وفطنة، تأكدوا من صحة الأمر بكل الوسائل.
{وَلَا}: الواو: عاطفة، لا: الناهية، تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.
{لِمَنْ}: اللام: لام الاختصاص.
{أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ}: أيْ: قال: السلام عليكم، أو أسلم، وأعلن إسلامه، أو استسلم، أو نطق بالشهادة.
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}: ترفضوا شهادته، أو تكذبونه بما في قلبه، ويكفيكم الظاهر، والله أعلم بما في القلوب.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}:
{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: العرض: كل ما يعرض، ويزول، وليس له دوام، أو ثبات، من منفعة، أو لذة عاجلة، أو مال، أو جاه، وغيره.
ويسمى متاع الدنيا عرضاً: لأنه عرض زائل، وقيل: العرَض بفتح الراء: هو المال، والعرْض بإسكان الراء: يدل على المتاع من أثاث، وما ينتفع به، ولذلك كل عرْض بإسكان الراء عرَض بفتحها، وهناك معنى آخر: هو العرض على الله تعالى.
أيْ: إياكم أن يكون سبب إيذائه، أو قتله هو ابتغاء أخذ الغنيمة منه، أو المال، أو الانتقام، أو الحمية، أو أيُّ عرضٍ من الأعراض الدنيوية الفانية، فلا بُدَّ من إخلاص النية والتبيُّن.
{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}: أرزاق، ونعم كثيرة لا تعد، ولا تحصى تغنيكم عما في أيدي الناس.
{كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}: هكذا كانت حالتكم قبل دخولكم الإسلام؛ إذ كنتم تخفون إسلامكم، وإيمانكم خوفاً من أذى المشركين والقتل إلى أن مَنَّ الله عليكم سبحانه، وأيدكم بنصره، فدخلتم الإسلام فصرتم آمنين، لا تخافون، وتظهرون إسلامكم، وتدعون الآخرين للدخول فيه، فتبيَّنوا أيها الدعاة، ويا من تحملون راية الإسلام، فتثبَّتوا، وتأكدوا من استباحة دماء إخوانكم من المسلمين، أو ممن ألقوا إليكم السلام، وكفوا أيديهم عنكم.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}:
{إِنَّ}: للتأكيد؛ أيْ: تأكدوا أن الله يعلم بواطن الأمور، ونياتكم، وذوات الصدور، وما تفعلون من صغيرة وكبيرة في الماضي، والحاضر، والمستقبل، ومن يعلم بواطن الأمور يعلم ظواهرها، ولا داعي لذكر ذلك.
كان سبحانه منذ الأزل، ولا يزال، وسيبقى مطلعاً، ويدرك أحوالكم.
وقدَّم كلمة تعملون على خبير؛ لأن سياق الآيات في الجهاد، والقتل.
و {بِمَا}: الباء: فيها للإلصاق.
انتبه إلى قوله جل جلاله: {فَتَبَيَّنُوا}: ذكرت مرتين؛ للتوكيد على التثبت من صحة الأخبار، والأدلة، وعدم التسرع في الحكم، والإقدام على أيِّ فعلٍ من دون تمحيصه، والتأكد منه.