للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة البقرة [٢: ١٤٣]

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}:

{وَكَذَلِكَ}: الواو: عاطفة، الكاف: للتثبت، ذلك: اسم إشارة للبعد، يفيد بُعد منزلتهم.

كذلك: تعني: مثل، أو كما هديناكم إلى القبلة جعلناكم أمة وسطاً.

{جَعَلْنَاكُمْ} الخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولأمته.

والأمة هي الجماعة الّتي تجمعها عقيدة واحدة بغض النّظر عن الكم البشري، والحيز الجغرافي.

{أُمَّةً وَسَطًا}: الوسط في الأصل: هو المنتصف، ووسط الشّيء، وله طرفان متساويان القدر. وقيل: الوسط: العدل (قال ابن عباس) والخيار.

{أُمَّةً وَسَطًا}: أي: جعلناكم الخيار العدول؛ أي: لا غلو، ولا تقصير في العقيدة والعبادات.

{لِتَكُونُوا}: اللام: لام التّعليل.

{شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}: قيل: هؤلاء الشّهداء هم أولو العلم من أمة محمّد -صلى الله عليه وسلم-، فقط الّذين يسألون أن يشهدوا يوم القيامة، أو يدعون إلى الشّهادة للأنبياء على أممهم أنهم قد بلغوا رسالات ربهم بعد أن تكذبهم أممهم، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم؛ فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؛ فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته؛ فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً، فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، والسّؤال هنا ما دلالة تقديم الشّهداء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنّ شهادتهم على الأمم والأنبياء هو الهدف العام الأول، وكون الرّسول شهيداً عليهم هو الهدف الخاص بهم، وكيف يشهدون على غيرهم من الأمم وعلى الرسل وهم لم يدركوهم؟ يقولون بما معناه: ربنا قرأنا كتابك وقصصت علينا أنهم قد بلغوا فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب: صدق نوح (أو الرسل) وصدقت أمة محمد.

وهذه ميزة لأمة محمّد -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأمم الأخرى. ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة؛ لمعرفة معنى النّاس. وارجع إلى سورة الحج آية (٧٨) لمزيد في معنى شهداء على الناس.

{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}: يكون على أمته شهيداً في الآخرة على أنّه قد بلغهم (الرّسالة)؛ أي: شرعُ الله، أو يشهد على أعمالكم، ولم يقل لكم شهيداً، أو شهيداً لكم أي: يشهد لمصلحتكم، وإنما قال عليكم؛ أي: على أعمالكم؛ لأنّ على تفيد الاستعلاء؛ لأنّ حياة ومصير المشهود عليه رهن بشهادة الشّهيد، وليس الشّهيد بمنزلة المشهود له؛ أي: المتهم، أو شهيداً على صدقكم فيما شهدتهم به للرسل.

{وَمَا}: النّافية.

{جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}: هذا بيان للحكمة في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة: إنّه اختبار إيماني لهم، فالله سبحانه يعلم علم اليقين ماذا سيحدث، وما فعل ذلك إلَّا ليكون الإنسان شهيداً على نفسه يوم القيامة، ويعلم درجة إيمانه، ومن يتبع الرّسول فيما أوحى اللهُ إليه ممن سينقلب على عقبيه، والعقب هو مؤخَّر القدَم؛ ويعني: الرّجوع إلى الوراء، والمراد به الارتداد عن الإسلام، والعودة إلى اليهودية، أو الشّرك، وينقلب على عقبيه استعارة تمثيلية للمرتد عن دينه.

{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}: وإن المخففة تفيد التّوكيد، لكبيرة: اللام للتوكيد، إلا: للحصر.

وإن كانت هذه العملية تحويل القبلة لكبيرة؛ أي: أمر ثقيل، أو عملية شاقة إلَّا على الّذين هداهم الله، والصّادقين في إيمانهم في اتباع الرّسول -صلى الله عليه وسلم-.

{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}: ما: النّافية، ليضيع: اللام للتوكيد.

ثباتكم على الإيمان والاستقامة. وقيل: نزلت فيمن صلَّى إلى بيت المقدس، ومات قبل تحويل القبلة فصلاته غير ضائعة وله أجره.

{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ}: انتبه إلى إن حرف توكيد، واللام في رؤوف حرف تأكيد ثان، بالناس: الباء للإلصاق. النّاس: ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة لمزيد من البيان. رؤوف: من الرّأفة أشد من الرّحمة، والرّحمة أعم من الرّأفة.

{رَحِيمٌ}: لا يضيع أجر، عمل عاملٍ منكم مهما كان.

والصّلاة إلى بيت المقدس في البداية كان لها حِكم كثيرة لا يعلمها إلَّا الله إضافة إلى الاختبار الإيماني، قد يكون من بينها دلالاتها على وحدة الرّسالات السّماوية، ولتهدئة الصّراع النفسي لهؤلاء الّذين خرجوا من مكة، ولنعلم أنّ الكعبة كانت في ذلك الزّمان محاطة بالأصنام، ولم يتم تطهير الكعبة من رجس الوثنية بعد، والعبادة ليس وقفاً على جهة معينة، والتّسليم لما أمر الله هو أساس الطّاعة.