سورة النحل [١٦: ٧٠]
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}:
{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ}: أوجدكم، والخلق يعني: التّقدير، خلقكم من تراب، ثمّ من نطفة، ثمّ علقة، ثمّ من مضغة مخلقة، وغير مخلقة، ثمّ يخرجكم طفلاً، ثمّ لتبلغوا أشدكم، ثمّ لتكونوا شيوخاً.
{ثُمَّ}: تفيد التّرتيب، والتّراخي في الزّمن.
{يَتَوَفَّاكُمْ}: أيْ: يأمر ملك الموت بقبض أرواحكم عند انقضاء آجالكم.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ}: من هنا البعضية، وليس الكلّ يُرد إلى أرذل العمر: أسوأ العمر، وذلك حين يبلغ الثّمانين، أو التّسعين، ويصاب بالخرف، والنّسيان، ويصبح عالة على غيره في حاجاته اليومية، ولا يعقل ما يقول، ولا يقوى على شيء، وهناك من النّاس من يبلغون الثّمانين، والتّسعين، ويقرؤون القرآن وغير عالة على غيرهم، وفي صحة جيدة.
{لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا}: كي: للتعليل الأساسي.
{لَا}: النّافية.
{يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا}: ولم يقل: لا يعلم من بعد علم شيئاً بإضافة (من)، كما في سورة الحج آية (٥).
فقوله تعالى: {لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـئًا}: أيْ: لا يتذكر القريب، أو البعيد؛ أيْ: يصاب بفقد الذاكرة للأشياء القريبة، والبعيدة بعد زمن قد يقصر، أو يطول، ولو قارنَّا هذه الآية مع قوله تعالى في سورة الحج، آية (٥): نجدهُ أضاف كلمة (من) وقال تعالى: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْـئًا}: أيْ: لا يتذكر الأشياء القريبة فقط، أو تدل على فقد ذاكرته للأشياء القريبة بعد زمن قصير، ويتذكر الأشياء، أو الأمور البعيدة التي فعلها منذ زمن بعيد.
{إِنَّ اللَّهَ}: إنّ: للتوكيد.
{عَلِيمٌ}: صيغة مبالغة كثير العلم بخلقه، وكونه، وما يحدث لهم، ويصيبهم من تغيرات وكم يعيشون.
{قَدِيرٌ}: على كلّ شيء يبقي من يشاء حياً لسنين طويلة، ومن دون أيِّ ضعف، أو تغيير في الذاكرة، أو يصيب بعض الأفراد بفقدان الذاكرة في أيِّ عمر، أو زمان، وبفقدان ذاكرة واحدة للقرب، أو البعد، أو بفقدان ذاكرتين للقرب والبعد معاً.
وهناك أمر آخر يجلب انتباه القارئ: وهو كيفية كتابة كلمة (لكي لا) في كلا الآيتين: ففي آية النّحل فصل بين كلمة كي ولا، بينما في آية الحج جمع بين كلمة كي ولا فكتبها لكيلا.
فهذا يدل على براءة القرآن الكريم من أيِّ تحريف مهما كان نوعه منذ نزوله على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والفصل بين (لكي ولا): ربما يشير إلى شيئين؛ أي: لكل (شيء) لا (شيء)، ويشيران لفقدان الذاكرتين القريبة والبعيدة.
والجمع أو الوصل بين لكيلا: لتدل على فقدان ذاكرة واحدة، وهي القريبة، وهذا يتطابق مع تفسير الآية.