سورة الأنعام [٦: ١١٢]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}:
{وَكَذَلِكَ}: الواو: استئنافية، كذلك؛ أيْ: كما جعلنا لك عدواً، أو أعداءً يخالفونك، ويعادونك؛ جعلنا للأنبياء من قبلك عدواً، أو أعداءً.
والسؤال هنا: كيف نفهم هذه الآية بأن يجعل الله لكل نبي عدواً، شياطين الإنس والجن؟ وفي سورة الفرقان، الآية (٣١) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}.
وكذلك قوله -جل جلاله- في سورة غافر، الآية (٥١): {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، والجعل هنا لا يعني أن الله جعلهم بطبيعتهم أعداء، أو الله سبحانه فرض عليهم، أو ألزمهم، أو صيرهم، بأن يكونوا أعداء.
ولكن الله أودع فيهم، وأعطاهم العقل، وحرية الاختيار، فاختاروا هم أنفسهم أن يكونوا أعداء، ومجرمين للأنبياء والرسل، وهناك بشر أمثالهم؛ اختاروا أن ينصروا الرسل، ويؤمنوا بهم، ويصدقوهم، بدلاً من أن يكونوا أعداء، وإذا سألت: لماذا تركهم يختارون أن يكونوا أعداء، وكان باستطاعته منعهم؟ لأن له القدرة المطلقة.
الجواب: لكان منعهم، سيكون قسراً وقهراً، والله لا يريد أن يقهر عاقلاً؛ فقد قال تعالى في سورة البقرة، آية (٢٥٦): {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}، فلا يحدث شيء في الكون إلا بحكمة؛ فهو أحكم الحاكمين، قد يتداخل سبحانه حين يشاء، وكيف يشاء؛ لينصر رسولاً، أو نبياً، أو مظلوماً.
{يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}:
{يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}: الوحي: هو إعلام بخفاء، ويعني: يوحي بعضهم إلى بعض، شيطان من الإنس يوحي إلى إنسي، أو شيطان من الجن يوحي إلى الإنس.
والوحي هنا يعني: الوسوسة، والتزيين، والإغراء؛ أيْ: يزيِّنون لهم فعل الأعمال القبيحة، والمعاصي، والفواحش، والمنكر، والقتل. ارجع إلى سورة النساء، آية (١٦٣)؛ لبيان معنى الوحي.
{زُخْرُفَ الْقَوْلِ}: الزخرف: هو أصله الذهب، والزخرف: يطلق كذلك على الزينة، وزخرف القول غروراً: هو الباطل والخداع.
زخرف القول: الكلام المزيَّن، والأوهام، والذي يحمل الأماني الباطلة.
{غُرُورًا}: خداعاً، وباطلاً. ارجع إلى سورة فاطر، آية (٥)؛ لمزيد من البيان.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}:
{وَلَوْ}: الواو: عاطفة، لو: شرطية.
{شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}: أيْ: ما فعلوا الإيحاء بزخرف القول غروراً، والتزيين، والوسوسة بالباطل، والخداع، وإنما كان ذلك للابتلاء والفتنة، وربط المشيئة بالربوبية، ولم يربطها بالألوهية، كما ربطها بالألوهية في الآية السابقة.
وربط المشيئة بالألوهية في سياق آيات التوحيد، والعبادة، والإيمان، وربط المشيئة بالربوبية في سياق المعاصي، والوسوسة، والإغراء.
وقوله -جل وعلا- : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ}: إضافة الرب إلى الضمير العائد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لتشريف مقامه -صلى الله عليه وسلم-؛ ارجع إلى الآية السابقة (١١٢) للمقارنة بين قوله تعالى: (ولو شاء ربك)، وقوله تعالى: (ولو شاء الله).
{فَذَرْهُمْ}: أيْ: اتركهم، ودعهمْ؛ تعود على كفار مكة.
{وَمَا يَفْتَرُونَ}: الافتراء: هو الكذب المتعمَّد، المختلق.
أي: اتركهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، و (ما): اسم موصول، أو مصدرية؛ يفترون من أساليب التزيين، والوسوسة، والكذب، والباطل.