سورة المائدة [٥: ٤٤]
{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِـئَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}:
{إِنَّا}: للتعظيم.
{أَنزَلْنَا}: جملة واحدة، دفعة واحدة، أنزلنا التوراة على موسى -عليه السلام- .
{فِيهَا هُدًى وَنُورٌ}: مصدر للهداية، أو هادياً للحق وللغاية.
{وَنُورٌ}: يُبيِّن الأحكام ليخرج به الذين هادوا من الظلمات.
١ - {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: يحكم بها النبيون؛ من بني إسرائيل؛ الذين أسلموا لله تعالى؛ أي: انقادوا لأوامر الله، وأخلصوا لله تعالى، واستجابوا له.
والسؤال هنا: لم قال سبحانه: {الَّذِينَ أَسْلَمُوا}؟ أليس جميع الأنبياء من المسلمين؟
٢ - أو {أَسْلَمُوا}: معناه: أخلصوا إسلامهم (إسلام الوجه)، وهو أعلى درجات الإسلام، والتوحيد، أو تعني {الَّذِينَ أَسْلَمُوا}: أمثال الذين جاؤوا من بعد موسى -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل، وعيسى -عليه السلام- .
يحكم بالرجم على المحصن، وغيرها من الأحكام.
{لِلَّذِينَ هَادُوا}: اللام: لام الاختصاص، هادوا: دخلوا في اليهودية.
{وَالرَّبَّانِيُّونَ}: جمع ربّاني، والربّاني: منسوب إلى الربّ؛ الذي يربي الناس؛ أي: المربي الذي يمتاز بالعلم بأمور الدِّين، والدنيا، والفقه، والحكيم، التقي، والتدبير بأمور الرعية، يعلم الناس ما يصلحهم في دنياهم ودينهم.
والربانيون: هم فوق الأحبار، وقيل: هم العُبّاد من اليهود.
{وَالْأَحْبَارُ}: هم العلماء من أهل الكتاب؛ أيْ: علماء اليهود، واحدهم الحبر؛ الذي يتمثل فيه الجمال والبهاء.
{بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: الباء: للإلصاق.
{اسْتُحْفِظُوا}: تعود على الربانيين والأحبار.
{اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: الألف والسين والتاء: تعني: الطلب؛ أيْ: طُلب منهم أن يحفظوا التوراة من التحريف، والتغيير، والتبديل، أو طلب منهم أن يحفظوا التوراة في صدورهم، وأن لا يضيعوا أحكامها وينسوها.
٣ - {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}: من حفظ الشيء؛ أيْ: داوم على حراسته، والمحافظة عليه والمراقبة.
أيْ: وكلهم الله على حفظه، وهذا أمر تكليفي، ولكن ما حدث هو أن بعضهم نسوا حظّاً مما ذكروا به، وكتموا شيئاً منه، وحرَّفوا قسماً منه، ولووا ألسنتهم به، وأضافوا كلمات، وبدَّلوا كلمات.
{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}:
ومقارنة بالقرآن الكريم: فقد تولى الله سبحانه حفظه بنفسه، ولم يترك لأحد أن يقوم بذلك، كما حصل للتوراة والإنجيل.
{وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}: كانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ، أو كانوا شهداء لمحمد -صلى الله عليه وسلم- بما قاله من الحق، وفي الحكم؛ أيْ: أوصاهم الله بأن يكونوا على التوراة شهداء؛ لئلَّا يُبدل أو يُحرف بالزيادة والنقصان.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِـئَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا}:
{فَلَا}: الفاء: للتوكيد، لا: الناهية.
{تَخْشَوُا النَّاسَ}: الخشية: هي الخوف، المصحوب بتعظيم من تخافه، والعلم بالذي تخافه.
{تَخْشَوُا النَّاسَ}: يعني: الرؤساء، أو الحكام، أو أي أحد؛ أيْ: تخافون الناس من أي ضرر، أو أذية، قد تلحق بكم من جراء قول الحق، أو فيما جاء في نعت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مثلاً، أو تبيان حكم جاء في كتاب الله، مثل: الحكم بالرجم للمحصن.
{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ}: واخشوا الله تعالى، إذا كتمتم ما جاء فيها، أو حرَّفتم آياتها، أو بدَّلتم أيَّ حكم، من أجل منفعة مادية، أو منصب، أو رشوة.
{وَاخْشَوْنِ}: ولم يقل واخشوني؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق التوراة والتي أنزلت فيها هدى ونور يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار ليس في ذلك إرجاف ولا فتنة أو إثارة, كما هو الحال في تغير القبلة التي أدت إلى فتنة كبيرة وإرجاف وارتداد البعض. ارجع إلى الآية (٣) في نفس السورة.
{وَلَا تَشْتَرُوا بِـئَايَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا}: أيْ: إياكم وتحريف ما أنزل الله؛ ابتغاء أي ثمن، فمهما كان الثمن كثيراً؛ فهو ثمن قليل وبخس، مقارنة بما عند الله من الثواب، والجزاء. ارجع إلى الآية (٤١) من سورة البقرة.
{وَمَنْ لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}:
{وَمَنْ لَّمْ}: شرطية، لم للنفي.
{بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}: الباء للإلصاق، والتوكيد.
{بِمَا}: اسم موصول، بمعنى الذي؛ أي: الذي أنزل الله؛ وهو التوراة.
{فَأُولَئِكَ}: الفاء: للتوكيد. أولئك: اسم إشارة للبعد.
{هُمُ}: ضمير منفصل؛ يفيد الحصر، والتوكيد، والمبالغة.
{الْكَافِرُونَ}: أيْ: إذا كان هناك كفار، فهم في طليعة هؤلاء الكفار، وأسوؤهم، وهم أولى أن يسمّون بهذا الاسم، وصفة الكفر أصبحت ثابتة فيهم.