سورة النساء [٤: ٧٨]
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}:
{أَيْنَمَا}: مركبة من أين + ما، وأين: ظرف مكان مبهم، وإضافة ما: لتزيدها إبهاماً، وغموضاً، وشمولاً.
وأينما: أكثر إبهاماً، وغموضاً، وشمولاً من حيثما.
{تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ}: يدرككم الموت: يلحق بكم الموت؛ أيْ: كأن الموت يركض وراءكم ليدرككم، ومتى أدرككم الموت سلبت أرواحكم، وانتهى أجلكم.
{وَلَوْ}: شرطية.
{كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}: البروج: جمع برج، وقيل: هو الحصن، أو القلعة.
{وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ}: ليس برجاً واحداً، بل عدد كبير من البروج، وكل برج داخل برج، حصن داخل حصن.
مشيدة: تم بناؤها بإحكام؛ أيْ: لو كنتم في بروج مشيدة تتوارون عن الموت، فالموت لا بُدَّ أن يخترق كل تلك البروج، ويصل إليكم، ولو كان عن طريق جرثومة، أو فيروس، أو بعوضة، وبسبب أو بلا سبب سيصل إليكم، فلِمَ الخوف من الجهاد في سبيل الله، والموت في سبيله بدلاً من الموت، كما يموت البعير.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}:
{وَإِنْ}: الواو: استئنافية. إن: شرطية فيها معنى الاحتمال.
{تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}: أيْ: تصيب المنافقين، أو ضعاف الإيمان، أو غيرهم من اليهود.
الحسنة: النعمة، والحسنة؛ أيْ: غنيمة، أو خير، أو خصب، أو رزق.
والحسنة لغوياً: هي كل ما يسر النفس، ويستحسنه الإنسان. وشرعاً: الحسنة هي كل عمل من قول، أو فعل خير يورث ثواباً.
{يَقُولُوا هَذِهِ}: اسم إشارة للقريب، هذه الحسنة من عند الله، وليس من عندك يا محمد، لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئاً من خير، أو بركة، أو فضل.
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}:
{تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: من فقر، وهزيمة، أو مرض، أو بلاء، يقولوا: هذه المصيبة، أو السيئة.
{هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}: من عندك يا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهم ينسبون ذلك إلى محمد، أو أنت السبب، أما الحسنة، أو الخير فينسبونه إلى الله تعالى، وكل هذا بسبب التطيُّر والتشاؤم، واتهام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما يلحق بهم من شر، وهو بريء من ذلك؛ حتى يفرِّقوا بين الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. والسيئة هنا لا تعني المعصية أو الإثم أو الذنب، وإنما المصيبة، وكما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}؛ إذن ما يصيب الإنسان من السوء أو الشر بسبب ذنوبه أو تقصير منه أو هو ابتلاء من الله تعالى فما عليه إلا الصبر.
{قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}:
{قُلْ}: لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
{كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللَّهِ}: الحسنة، أو السيئة التي تصبكم كل من عند الله، وما يحدث من حسنة، أو سيئة هو بقضاء الله وقدره، وكل ما يصيب المؤمن من حسنة، أو سيئة هو خير، وهو ابتلاء من عند الله تعالى أيصبر، أم يشكر.
{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}:
فما: الفاء: استئنافية، ما: اسم استفهام يراد به التعجب من فرط جهلهم.
{هَؤُلَاءِ}: الهاء: للتنبيه؛ تنبيه المستمع، أو الهاء: اسم إشارة.
{الْقَوْمِ}: كفار مكة؛ أي: المشركون.
{لَا}: النافية المطلقة.
{لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}: أيْ: ماذا أصاب هؤلاء القوم في عقولهم، فهم لا يكادون يفقهون حقيقة ما يقال لهم من حديث، أو كلام، أو قرآن.
لا يفقهون حديثاً: الفقه في اللغة: الفهم، والفقه اصطلاحاً أو في الشريعة: هو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، مثل العلم بأفعال المكلفين، وتشمل التحليل والتحريم والإباحة والصحة والفساد والإطلاق والنهي والإيجاب وغيرها، والقول لا يكاد يفقه حديثاً هو أسوأ من القول إنه لا يفهم، ولا هو قريب من الفهم.
والحديث قد يعني القرآن، فهم لا يفقهون معانيه، وآياته، ولا هم قريبون من فهمه، أو الأحكام الشرعية أو ليس عندهم أي علم.