سورة آل عمران [٣: ١١٢]
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}:
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}: أحاطت بهم الذلة، أو ألصقت بهم المذلة بحيث لا يستطيعون الانفكاك عنها، كما تحيط الخيمة بما فيها (استعارة مكنية).
وكلمة ضربت مشتقة من صهر المعادن في قالب تصهر النقود الفضية فيه، تُصهر وتوضع في قالب، فتخرج مطبوعة بطباعة لا تنفك عنها.
{عَلَيْهِمُ}: جار ومجرور، وتقديم عليهم على الفاعل تفيد الحصر، وعلى تفيد الاستعلاء والمشقة.
{الذِّلَّةُ}: الذليل: هو من لا منعة له، ولا قوة (ضعفاء لا منعة لهم ولا قوة)، وحدث ذلك بعد أن تأمروا على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبسبب الحروب ضد المسلمين مثل حروب خيبر، وبني قريظة، وبني قينقاع.
{أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}: أين: ظرف مكان تفيد الإبهام والغموض، وأوسع شمولاً وعموماً من حيثما. ما: شرطية، ثقفوا: أينما وجدوا، ولكن هناك فرق بين ثُقفوا ووجدوا.
ثقفوا: إذا ثقفت عدوك؛ أي: وجدته وأنت في حالة من القوة، والتمكن من النيل منه.
وجدوا: تعني إذا وجدت عدوك؛ أي: وجدته وأنت في حالة غير تأهب، واستعداد لقتاله، والنيل منه، وهنا يجب عدم التعرض له ومواجهته.
أي: ضربت عليهم الذلة أينما أدركوا، وأقاموا، فالذلة محيطة بهم.
{إِلَّا}: أداة استثناء، إلا في حالتين يكونون فيها غير أذلاء:
الأولى: {بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}: الحبل هو العهد من الله.
والحبل هو المعاهدة كالمعاهدة التي تربط بين دولة ودولة أخرى.
والحبل يعني الأمان؛ لأنه يوصل إلى البغية، ويزول به الخوف.
إلا بحبل من الله؛ أي: ضربت عليهم الذلة في كل الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل من الناس، وحبل الله يعني: الكتاب (القرآن، أو التوراة)، أو الدِّين.
أي: إذا تمسكوا بكتابهم كالتوراة (وعملوا بما فيه)، أو الذين طبقوا ما فيه فهم في مأمن.
أو إذا أعطاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- العهد، كما حصل في المدينة، فكانوا آمنين غير خائفين.
وبعد أن تخلى عنهم الله بسبب ما فعلوه لجؤوا إلى غيرهم كالدول وغيرها لتحميهم.
الثانية: {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}: أو هم غير أذلاء حين عقدوا المعاهدات مع الدول الأخرى؛ فأصبحوا تحت حماية دولة قوية تدافع عنهم.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}: رجعوا أو استحقوا غضب الله، والباء في كلمة بغضب للإلصاق؛ أي: غضب الله لا يفارقهم (ملتصق بهم).
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}: المسكنة أمر ذاتي نفسي داخلي، هو شعورهم بأنهم مظلومون مساكين أمام العالم كله، بينما الذلة أمر خارجي (مثل الهزائم في الحروب، والانكسار، والجبن، والخوف).
{ذَلِكَ}: اسم إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب الله.
كل ذلك سببه كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، وبسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على حدوده.
{بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: يكفرون ولم يقل: كفروا؛ لأنهم استمروا على كفرهم، وكفرهم يتكرَّر، ويتجدَّد، ولم يتوقَّف.
أمثلة على كفرهم بآيات الله، مثل: النجاة من فرعون، وفلق البحر، وإنزال المن والسلوى، ورفع الطور فوقهم كأنه ظلة، وضرب الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
{وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}: ارجع إلى الآية (٦١) من سورة البقرة لمقارنة آيات قتل النبيين والأنبياء بحق وبغير حق.
يقتلون الأنبياء: جاءت بالفعل كفعل مضارع (لحكاية الحال)؛ ليحضر صورة القتل أمام أعيننا رغم أنه حدث في الماضي، وينقله من الماضي إلى الحاضر؛ لبشاعته.
والأنبياء: تدل على جمع كثرة (جمع تكسير) مقارنة بالنبيين جمع سالم يفيد القلة.
بغير حق: حق: نكرة، والنكرة تدل على البشاعة والذم، ولا يوجد حقٌّ أصلاً، أو سبب سواء كان معرفة، أو نكرة يدعو إلى قتل أي نبي.
{ذَلِكَ}: تفيد التوكيد والتكرار لما حدث لهم من الذلة والمسكنة والغضب.
{بِمَا عَصَوْا}: الباء: باء السببية، أو البدلية.
أي: بسبب عصيانهم أوامر الله، ونواهيه، وكانوا يعتدون، أمثلة: أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وصدهم عن سبيل الله كثيراً.
لنقارن هاتين الآيتين سورة البقرة، آية (٦١): {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}.
والآية (١١٢) من سورة آل عمران: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}.
ففي آية البقرة: الذلة والمسكنة ضربت عليهم في آن واحد (في زمن موسى -عليه السلام- )، وتجلت الذلة والمسكنة في هزائمهم في الحروب مع العماليق (القوم الجبارين) الذين كانوا دائماً يهزمونهم، وسرقوا التابوت الذي فيه بقية من آل موسى وآل هارون.
وأما في آية آل عمران: ضربت عليهم الذلة في زمن أول، وضربت عليهم المسكنة في زمن آخر، أو ثانٍ، وضربت عليهم الذلة حين تآمروا على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضربت عليهم المسكنة في حروب خيبر وبني قريظة وبني قينقاع. ومقارنة هاتين الآيتين يشير إلى استعمال التنكير في آية آل عمران، وذكر الأنبياء في آل عمران الذي يدل على جمع الكثرة مقارنة بقتل النبيين جمع قلة في البقرة، واستعمال صيغة التعريف يدل على أن آية آل عمران أشد وأبلغ ذماً وتشنيعاً من آية البقرة، ولا ننسى أن آية البقرة أيضاً جاءت في سياق تعداد النعم على بني إسرائيل.