سورة الأنعام [٦: ٩٣]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}:
{وَمَنْ}: الواو: استئنافية. من: اسم استفهام؛ فيه معنى الإنكار والتعجب.
وتعني: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً.
{أَظْلَمُ}: أسوأ، أو أقبح, والظلم تتفاوت درجاته بين صغائر الذنوب وكبائر الذنوب.
{مِمَّنِ}: أصلها: (مِنْ + مَنْ): أدغمت الأولى في الثانية؛ فأصبحت ممَّن.
ومن الأولى: ابتدائية، ومن الثانية: اسم موصول؛ بمعنى: الذي.
{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: افترى: اختلق على الله الكذب المتعمد.
{كَذِبًا}: ولم يقل: الكذب.
{كَذِبًا}: نكرة؛ يشمل كل أنواع الكذب.
أما قوله: الكذب المعروف بأل التعريف: فهو يخص مسألة معينة؛ مثل قوله في سورة يونس (٦٨-٦٩): {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ}، {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
الكذب هنا: محدد بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}.
{افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}: باتخاذ الشركاء، والأنداد، أو له ولد، أو بنت يشمل الكل؛ لأنه نكرة ولم يحدد.
{أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ}: أي: ادعى النبوَّة باطلاً؛ مثل مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي كما روي عن ابن عباس، ولمعرفة معنى الوحي. ارجع إلى سورة النساء، آية (١٦٣).
{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}:
قيل: كما روي عن ابن عباس: هو عبد الله ابن أبي سرح، كان أخاً لعثمان بن عفان من الرضاعة، وكان يكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان إذا أملى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن اكتب سميعاً عليماً، كتب عليماً حكيماً، وكان يحاول الافتراء على الله، ولما نزلت آية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، تعجَّب عبد الله بن سرح، فسارع بالقول: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اكتبها هكذا نزلت، ونزل في نفسه الغرور، فقال: لئن كان محمداً صادقاً؛ فلقد أوحي إليَّ مثل ما أوحي إليه.
وهذا تفسير {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، ثم ارتدّ عن الإسلام، ثم عاد، ورجع إلى الإسلام قبل فتح مكة، وجاء به عثمان يطلب له العفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: غيره من البشر؛ الذين قال الله سبحانه في حقهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: ٣١].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}.
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ}: رؤية قلبية، وبصرية.
ولو: هنا شرطية، وتحتاج إلى جواب، والجواب محذوف؛ لرأيت أمراً عجباً.
{الظَّالِمُونَ}: الذين افتروا على الله كذباً، وقالوا أوحي إلينا، ولم يوح إليهم، أو سأنزل مثل ما أنزل الله، والظالمون: جمع ظالم، وهو كل من خرج عن منهج الله.
{فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ}: سكرات الموت، وغمرات: جمع غمرة، وغمرات الموت؛ استعارة من غمر الماء؛ أيْ: أن تغمرهم سكرات الموت، وشدائده، كما تغمر مياه الفيضان المكان، أو الأرض. وهذا المشهد يدل على شدة الألم، أو الظالم المغمور بذنوبه فلا منجى ولا ملجأ له، ولم يقل في غمرة الموت، بل غمرات للتهويل لما سيصيبهم قبل نزع أرواحهم.
{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ}: باسطوا: من البسط وهو مد اليد بالسوء؛ أي: بالضرب والعذاب؛ أيْ: مدوا أيديهم؛ لقبض وإخراج أرواح الظالمين.
يقولون: أخرجوا أنفسكم؛ أيْ: تقول لهم الملائكة ذلك؛ توبيخاً لهم؛ أيْ: خلصوا أنفسكم من العذاب، وسكرات الموت؛ إن استطعتم.
ففي هذه الآية؛ لم يصرح بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي، ولكن أشار إلى ذلك في آية أخرى في سورة الأنفال، الآية (٥٠).
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ}.
والسؤال هنا هل ملائكة العذاب هم أنفسهم ملائكة قبض الأرواح أن هناك نوعين من الملائكة منهم للعذاب أولاً ومنهم لقبض الأرواح يحضرون بعد انتهاء العذاب؟
{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ}: عذاب الذل، والهوان، العذاب المؤلم الذي يخالطه الذلة، والإهانة، وعلى مرأى من الناس الحاضرين موته أو أهل الميت.
{بِمَا}: الباء: السببية؛ أيْ: بسبب.
الذي {كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ}: بادّعاء النبوَّة، أو الإيحاء، أو أن الله لم ينزل على بشر من شيء، وأن له ولد، وله شريك، وغيرها.
{وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}: وكنتم في الدنيا تكرار كنتم: تفيد التوكيد، عن: للتعليل.
{تَسْتَكْبِرُونَ}: التاء، والسين: للطلب؛ أيْ: ليس عندكم مؤهلات الكبر، ومع ذلك كنتم تستكبرون.