سورة البقرة [٢: ٢٨٤]
{لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}:
{لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ}: ملكاً، وخلقاً، وحكماً، وتدبيراً.
فهو مالك لهنَّ، وما فيهنَّ، الكل ملكه، وتقديم الجار والمجرور.
لفظ الجلالة للحصر، والقصر، فلا مالك إلا هو، وهو المالك الحق، (ولم يقل: ما في السموات وما في الأرض لله).
{مَا فِى}: ما: اسم موصول، وهي مطلقة تشمل العاقل، وغير العاقل، ما في السموات السبع وما فيها من كواكب ومجرات ونجوم وغيرها، وما في الأرض وما فيها؛ أي: أنّ الله سبحانه هو الخالق، والمالك، والحاكم، والغني.
وتكرار (ما) في السموات، و (ما) في الأرض: يفيد التّوكيد، وفصل كل عن الآخر، أو كلاهما معاً.
لأنّ هناك أشياء موجودة في السماء، وليست في الأرض، أو أشياء موجودة في الأرض، وليست في السماء.
والظرف السموات، وما فيهنَّ هو المظروف.
والظرف الأرض، وما فيها هو المظروف.
{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ}:
{وَإِنْ}: الواو: عاطفة، إن: شرطية.
{تُبْدُوا}: من الإبداء، وإبداء ما في النفس هو إظهار ما يضمره العبد، سواء بالنطق، أو العمل به.
{مَا}: اسم موصول تفيد الشمول (كل شيء تبدونه من خير، أو شر صغير، أو كبير تنطقون به، أو تفعلونه في كل زمان، وفي كل مكان).
{فِى}: ظرفية زمانية ومكانية.
{أَوْ}: للتقسيم.
{تُخْفُوهُ}: من الإخفاء، ويشمل الكتمان، والسر، والكتمان يكون للمعنى، أو الأشياء المعنوية مثل كتم السر، أو الخبر، والإخفاء يكون للأشياء الحسية خاصة، والمعنوية أحياناً.
{مَا فِى أَنفُسِكُمْ}: ولم يقل: ما في نفوسكم؛ لأنّ الأنفس أقل من النفوس (النفوس تعني: كل نفس).
فيصبح المعنى: إن الله سيحاسب أنفساً، وليس كلَّ النفوس؛ لما تبديه، ولما تخفيه؛ أي: يعفو، ويفغر لمن يشاء، وسيحاسب من يشاء.
وهل يعني: سيحاسب الله كلَّ نفس على نوازعها الكثيرة الّتي تضم الهواجس (والخواطر، وأحاديث النفس، والوساوس، والهم؛ أي: النية والقصد، والعزم؟) الجواب: لا.
وما قاله الفقهاء في هذا: أنّ الوساوس، وأحاديث النفس، والخواطر لا تدخل فيما ستحاسب عليه النفس، ولكن الّذي سيحاسب عليه الله سبحانه هو العزم، أو ما يُبدي الإنسان، وليس ما يُخفي؛ أي: حين يبدأ بفعل المعصية أو السيئة ولا رجعة بعدها.
{فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ}: يستر من أراد مغفرته، (واللام في لمن: للتوكيد)، يستره بفضله.
{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}: يعاقب من أراد تعذيبه.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ}: على محاسبتكم، وجزائكم، ومغفرتكم، وعذابكم.
وفي هذه الآية قدَّم الإبداء (الإظهار) على الإخفاء، فقال: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}: للاهتمام، والمفروض من المؤمن أن يكون سرُّه كجهره، وليس كالمنافق الّذي يختلف ظاهره عن باطنه.
عن أبي هريرة قال: لما نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ}: اشتد ذلك على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جَثَوْا على الرُّكب، فقالوا: أي: رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصّيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية، ولا نطيقها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}». رواه مسلم، وأحمد، وابن حبان.