سورة العنكبوت [٢٩: ٨]
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}:
أسباب النزول: روى مسلم وغيره والواحدي في أسباب النزول: نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه لما أسلم قالت له أمه: يا سعد بلغني أنك صبوت، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح، ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى ما كنت عليه، أو أموت فتعير فيقال يا قاتل أمه، وكان باراً بأمه، فأبى سعد فصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب، ولم تستظل بظل حتى خشى عليها، فأتى سعد النبي -صلى الله عليه وسلم- وشكا ذلك إليه فأنزل هذه الآية، وقال سعد إليها: يا أماه لو كانت لك مئة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فكلي إن شئت وإن شئت فلا تأكلي فلما آيست منه أسلمت وأكلت.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ}: ووصّينا: من وصّى، وصّينا: ألزمنا، كلّفنا، وهناك فرق بين وصّى وأوصى، ووصّى: تستعمل لما هو أهم مثل أمور الدّين والأمور المعنوية، ويستعمل أوصى للأمور المادية، إلا في آية واحدة: {وَأَوْصَانِى بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: ٣١]، لاقتران الصّلاة بالزّكاة. ارجع إلى سورة النساء آية (١١) لمزيد من البيان.
{بِوَالِدَيْهِ}: الباء باء الإلصاق، وقوله: (بوالديه) فيها تغليب أو تذكير بالوالدة (الأمّ) على الوالد، ولم يقل بأبويه؛ فيه تغليب الأب على الأم، ولو كان الأمر يتعلق بالأب لجاء بكلمة أبويه. وانتبه عندما يوصي الله تعالى الأولاد بالوالدين يقول: (ووصينا الإنسان بوالديه)، يأتي بالباء الّتي تفيد الإلصاق والمصاحبة؛ أي: الاستمرار والدّوام أو التّوكيد ويستعمل كلمة وصَّى.
وحينما يوصي الله تعالى الوالدين بالأولاد لا يأتي بالباء مثال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} [النساء: ١١]، ويستعمل كلمة أوصى، ولم يقل بأولادكم؛ لأنّ الوالدين أو الأبوين لا يحتاجان إلى التّوكيد؛ لأنّ الوصية وحبهما لأولادهما أمر ثابت في قلوب الآباء للأبناء.
{حُسْنًا}: أي تقول لهم قولاً حسناً أو تعاملهم معاملة حسنة، وقيل: الحُسن بضم الحاء: هو الاسم الجامع لكلّ معاني الحُسن، وأمّا الحَسن بفتح الحاء هو البعض من معاني الحُسن، والإحسان أعلى درجات البر والحُسن. والإحسان أمكن من حسناً وأعلى درجة وأقوى؛ تعني: معاملة حسنة وزيادة. ارجع إلى سورة البقرة آية (١١٢) لمعرفة معنى الإحسان.
{وَإِنْ}: شرطية تحمل معنى الاحتمال والشّك؛ أي: تستعمل للأمر المشكوك في حدوثه وهو الشرك في هذه الآية.
{جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى}: أي لنفرض أنّهما والدان كافران غير راضيين عنك لأنّك أسلمت، فإن جاهداك؛ أي: بذلا أيّ جهد لحملك لتشرك بالله أو العودة إل الكفر والشرك، فلا تطعهما.
بينما في سورة لقمان الآية (١٥) قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}: ففي هذه الآية الوالدان يشترطان على الولد الشّرك، فالمجاهدة هنا أشد وأقوى مقارنة بالمجاهدة في آية العنكبوت، ولذلك جاء بكلمة (على) لتفيد المشقة والعلو.
{فَلَا تُطِعْهُمَا}: الفاء للتوكيد، لا النّاهية، تطعهما: في كلا الحالتين، أو في أيّ أمر يخالف أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا طاعة لمخلوق مهما كان في معصية الخالق.
{إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ}: يوم القيامة. وقدم إلي: للحصر؛ أي: إليه وحده مرجعكم. مرجعكم: اسم مكان أو زمان من فعل رجع وقد يكون مصدراً.
{فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}: الفاء: للتوكيد والمباشرة؛ أنبئكم: أخبركم؛ بما: ما اسم موصول أوسع شمولاً من الذي كنتم تعملون في الدّنيا، وتضم ما كنتم تقولون وما كنتم تفعلون من خطأ أو صواب أو حق وباطل، الباء: للإلصاق، ما اسم موصول بمعنى الّذي أو مصدرية.
لنقارن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، مع الآية (٨٣) من سورة البقرة: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وبقية الآيات المشابهة في سورة النّساء الآية (٣٦) والأنعام الآية (١٥١) ولقمان الآية (١٤-١٥) والإسراء الآية (٢٣-٢٥) والأحقاف الآية (١٥) للمقارنة، ولمعرفة أوجه الاختلاف في كل الآيات التي توصي الإنسان بوالديه.