للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة المائدة [٥: ١٤]

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}:

بعد أن ذكر كيف نقض اليهود ميثاقهم، وماذا كانت عاقبة أمرهم.

يذكر الآن النصارى، وميثاقهم، وماذا كانت عاقبة أمرهم.

{وَمِنَ}: ابتدائية.

{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}: نسبة إلى قرية الناصرة في فلسطين، كان عيسى -عليه السلام- ينزلها.

{أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ}: ميثاقهم: الإيمان بالله، والرسل، وطاعة الله، فيما أمر، والتوحيد، والعمل بما أمر الله على لسان عيسى -عليه السلام- .

{فَنَسُوا}: الفاء: للتعقيب، والترتيب، والمباشرة.

{فَنَسُوا حَظًّا}: عمداً، ارجع للآية السابقة (١٣)؛ لبيان معنى الآية.

ممّا ذكروا به في الإنجيل، ومن الإيمان، وتركوا العمل به، ونقضوا العهد، ومما ذكروا به: هو اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-.

{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}:

{فَأَغْرَيْنَا}: الفاء: للتعقيب، والمباشرة.

{فَأَغْرَيْنَا}: أصلها من الغراء: وهو المادة الصمغية المستعملة للصق الخشب على بعضه. والإغراء هنا يعني: الحث على فعل ما، وتحسينه في نظر الذي يراد إغراؤه واستخدم أغرينا ليدلنا على عظم العداوة والبغضاء التي انتشرت بينهم.

{بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}: أيْ: أوقعنا بين طوائف، وفرق النصارى العداوة والبغضاء، بسبب اعتقاداتهم الفاسدة؛ مثل: كون عيسى -عليه السلام- إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، وتحريفهم الإنجيل، وكفرهم بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وبالقرآن، فأصبحت كل فرقة منهم تُكفر الأخرى، وتعادي الأخرى.

{وَسَوْفَ}: سوف للتراخي، والاستقبال؛ أيْ: في الآخرة.

{يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: ينبئهم في الآخرة، بما: الباء: للإلصاق.

{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: في الدنيا، واختار كلمة {يَصْنَعُونَ}: بدلاً من يعملون، أو يفعلون؛ لأنهم امتازوا بصنعة التحريف، والنسيان، والكتم، وأصبحوا ذوي خبرة، وترك ما أمروا العمل به؛ فتحول من فعل عادي إلى صناعة (تعني: الجودة، في التحريف والكتم).

هذه الآية (١٤) لا بُدَّ من مقارنتها بآية أخرى، وهي الآية رقم (٦٤) من نفس السورة، وهي قوله -عز وجل- : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}.

فمع النصارى استعمل -عز وجل- كلمة: {فَأَغْرَيْنَا}، ومع اليهود استعمل كلمة {وَأَلْقَيْنَا}: {فَأَغْرَيْنَا}: أشد قوة وتأكيداً من {وَأَلْقَيْنَا}.

أيْ: أغرينا بين طوائف وفرق النصارى العداوة والبغضاء؛ أيْ: جعلنا عداوتهم وبغض بعضهم لبعض أشد بكثير ممّا جعلناه بين فرق وطوائف اليهود؛ والسبب في ذلك: أن الحروب، والخلافات بين طوائف النصارى أشد من الخلافات والحروب بين طوائف اليهود، وكلاهما اختلفوا وتفرقوا من بعد ما جاءتهم البينات؛ والسبب في ذلك اعتقاد النصارى أن عيسى -عليه السلام- إلهاً، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة وغيرها، هي اعتقادات باطلة وفاسدة، إضافة إلى تحريفهم الإنجيل، وأما اليهود؛ وإن كانوا قد حرفوا التوراة مرتين، لكن اعتقاداتهم لا ترقى إلى اعتقادات النصارى من جهة الوحدانية.