سورة البقرة [٢: ١٥٠]
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}:
هذه هي المرة الثالثة الّتي يكرِّر سبحانه ذكر هذه الآية؛ فما تعليل ذلك؟
في هذه الآية يُبيِّن -جل وعلا- أن تحويل القبلة سيثير بعض الشبهات والأباطيل الّتي تراود عقول الضعاف والمنافقين والمشركين، وبعض أهل الكتاب والّذين ظلموا، سواء وجهت وجهك شطر المسجد الحرام، أم عكفت في التوجه إلى بيت المقدس، ومن هذه الادعاءات الباطلة، أو الحجج؛ لو استمر -صلى الله عليه وسلم- يصلِّي تجاه بيت المقدس؛ لقالوا:
١ - كيف يدَّعي محمّد -صلى الله عليه وسلم- أنه من ولد إسماعيل، وإبراهيم، وهم الّذين بنوا الكعبة، وقبلتُهم الكعبة، ويصلِّي تجاه بيت المقدس، ويطعنون في نبوته.
٢ - أو ظنوا إذا اتَّجه بصلاته إلى الكعبة، فغداً سيرجع إلى قبلة أبيه، وسيرجع إلى دينهم، ويترك ما جاء به (أي: الإسلام).
وغيرها من الحجج الواهية.
{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}: اللام: للتعليل. إن: حرف مصدري.
{لِلنَّاسِ}: اللام: للاختصاص. النّاس: ارجع إلى الآية (٢١) من نفس السورة لمزيد من البيان.
{إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}:
{إِلَّا}: هنا تعني: أي: والّذين ظلموا منهم.
فتصبح: لئلا يكون للناس عليكم حُجة والّذين ظلموا منهم، ولا تعني الاستثناء.
{فَلَا}: لا: الناهية. {تَخْشَوْهُمْ}: من الخشية، وهي الخوف، والرهبة، والتعظيم المقرون بالعلم.
أي: لا تخافوا جدالهم في التولي إلى الكعبة، ولا ترهبوهم.
{وَاخْشَوْنِى}: أي: بامتثال أمري، والخشية كما ذكرنا: الخوف المقرون بالعلم والتعظيم، واخشوني جاءت بإثبات ياء المتكلم في هذه الآية مقارنة بالآية (٣) في سورة المائدة وهي قوله فلا تخشوهم واخشون بحذف الياء؛ ارجع إلى سورة المائدة آية (٣) للمقارنة والبيان.
{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ}: بالهداية إلى معالم دينكم في الدّنيا وفي الآخرة بالثواب.
{وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}: الواو: عاطفة، {وَلَعَلَّكُمْ}: للتعليل تهتدون إلى الحق والصراط المستقيم، الذي يوصلكم إلى الغاية. وإذا نظرنا إلى كلمة {وَاخْشَوْنِى}: في هذه الآية، وإلى الآية (٣) من سورة المائدة {وَاخْشَوْنِ} من دون ياء، ونظرنا في سياق الآيتين نجد أنّ آية سورة البقرة قد جاءت في سياق تحويل القبلة، الذي أدَّى إلى هزة عنيفة في نفوس كثير من النّاس، وإلى قيام معركة بين الحق والباطل، ولذلك جاء التحذير أشد وظهرت الياء.
أما في آية المائدة؛ فقد جاءت في سياق الأطعمة المحرمة، وما ذبح على النصب فالتحذير فيها أقل، ولذلك جاء (واخشون) من دون ياء.
أما تكرار الآية: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: ثلاث مرات، يمكن تفسيره بعدة احتمالات:
الاحتمال الأول: قيل: التكرار يفيد التّوكيد، ربما أنّ تحويل القبلة إلى المسجد الحرام بدلاً من المسجد الأقصى كان حدثاً مهمّاً وخطيراً في المعركة بين الحق والباطل، فلا بد أن يُذكر هذا الأمر عدَّة مرات ليستقر في أذهان وقلوب النّاس، ويسمعوا الأمر بالتحويل عدَّة مرات حتّى يكون الأمر حاسماً، ولا يبقى شك في نفوس المؤمنين، وليعلم أهل الكتاب أنّ المسلمين لن يرجعوا عن قبلتهم.
الاحتمال الثّاني: الآية الأولى؛ وهي الآية رقم (١٤٤): {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}: جاءت استجابة لتقلُّب وتردُّد وجهه -صلى الله عليه وسلم- في السماء، حيث قال سبحانه في مطلع الآية (١٤٤): {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِى السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}؛ أي: لنسخ القبلة عن المسجد الأقصى.
وأما ذكر الآية في المرة الثانية وهي الآية رقم (١٤٩): جاءت لتبين أنّ تحويل القبلة هو الحق من ربك، وأضاف حرف (إنّ)، واللام في قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: للتأكيد، فليطمئن المؤمنون، فهذا الأمر ثابت، ولن يتغير إلى يوم القيامة؛ أي: لتبيان السبب.
وأما ذكر الآية للمرة الثالثة، وهي الآية (١٥٠)؛ وجاءت: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}: لتبيِّن أنّ التحويل هو من النعم، الّتي أنعمها الله على هذه الأمة؛ أي: لتبيان العلة.
الاحتمال الثالث: أنّ التكرار في المرة الأولى يشير إلى هؤلاء، الّذين هم داخل المسجد الحرام أن يصلوا تجاه الكعبة لمن يرى الكعبة ولمن لم يرها، وفي المرة الثانية جاءت لتشير إلى هؤلاء، الّذين هم خارج المسجد الحرام في مكة، وما حولها والمدينة بالاتجاه إلى المسجد الحرام، وفي المرة الثالثة جاءت لتشير بالتوجه إلى المسجد الحرام لمن هو موجود في أي بقعة من بقاع الأرض.