سورة النساء [٤: ١٠٥]
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}:
سبب النزول: كما روى ابن عباس؛ روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق؛ فقد سرق درعاً من دار جارٍ له، ووضعها في جراب من دقيق، ثم خبَّأها عند يهودي اسمه زيد بن السمين، فالتمسوا الدرع عند طعمة، فلم يجدوها، وأنكر أنه سرقها، وعندما وجدوها عند اليهودي أخبرهم أن طعمة قد أودعها عنده، ولكن طعمة أنكر ذلك، فجاؤوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وحلف قوم طعمة على براءته، فصدقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وراح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجادل عن طعمة، وهمَّ في معاقبة اليهودي، فنزلت هذه الآيات تفضح طعمة أنه هو السارق، فهرب طعمة إلى مكة، وارتد، وعاد إلى السرقة، فسقط عليه حائط فمات مرتداً كافراً.
{إِنَّا}: يتكلم الله عن ذاته، فيستعمل صيغة التعظيم، والجمع: إنا.
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ}: أنزلنا تدل على الإنزال دفعة واحدة، وأما نزلنا فتدل على مراحل متعددة، ونزل أقوى وأكد من أنزل. ارجع إلى الآية (٤) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
أما بالنسبة إليك وأحياناً يقول: أنزلنا عليك، فعلى، أو إلى تفيدان إنزال الكتاب؛ أي: المنهج الذي نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، و (على) تفيد العلو، والسمو، فحين يستعملها يعني: الحديث موجَّه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيما يخصه بشكل عام.
وحين يستعمل (إليك): تأتي في سياق التبليغ والتكليف، وإيصال المنهج إلى الناس. ارجع إلى الآية (٤) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.
{الْكِتَابَ}: القرآن الكريم بالحق، والباء: للإلصاق.
{بِالْحَقِّ}: بالحق: (هو الشيء الثابت الذي لا يتغير)، سواء في خبره، وحكمه، وبيانه.
{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}: اللام: لام التعليل، والتوكيد.
{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}: الباء: للإلصاق والتوكيد. أراك الله: أيْ: بما أوحى إليك وعلمك الله تعالى من الأحكام، وأطلعك عليه من الأخبار، والرؤية هنا تعني: هذا العلم الذي يعتبر كأنه رؤية يقينية، وليست ظنية، لا ريب فيها، ولا شك، وهي خاصَّة به -صلى الله عليه وسلم-.
{وَلَا تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}:
{وَلَا}: الواو: استئنافية.
لا: الناهية.
{تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}: اللام: لام الاختصاص.
{لِّلْخَائِنِينَ}: جمع خائن، والخائن: الذي ائتُمن؛ فأخذ؛ فخان.
والخائن: هو الذي تصدر عنه الخيانة مرة واحدة، أو تصدر منه الخيانة في أمر صغير.
أما الخوان: فهو الذي تصدر عنه الخيانة مرات عديدة، أو تصدر منه الخيانة في أمر عظيم.
{خَصِيمًا}: مدافعاً عن الخائنين، ومعيناً لهم، أو تقف لصالح الخائنين.
ولم يقل الحق سبحانه: ولا تكن عن الخائنين خصيماً، بل قال: للخائنين: الغاية من الدفاع عن الخائن أن ترجح كفته، وتكون له لا عليه، والسؤال هل خاصم -صلى الله عليه وسلم- أم لا؟
الجواب على ذلك: همَّ أن يخاصم، وكان مجرد خاطر أن ينصر طعمة، ولم يحدث ذلك.
همَّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ظن أن طعمة، وقومه لا يكذبون.
ولِمَ عبَّر بقوله: للخائنين مع أن الخائن، أو السارق هو طعمة فقط؟
الجواب على ذلك: أن بني ظفر (قوم طعمة وإخوته) شهدوا له بالبراءة، ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم.
للخائنين: تشمل طعمة، وكل من خان خيانته؛ أيْ: لا تجادلوا عنهم، وإن كان الخطاب موجَّه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو يشمل أمته.