سورة البقرة [٢: ١٤٧]
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}:
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}: أي: هذا الذي يكتمون هو الحق من ربك (أمر محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وصفاته، ونبوته، ورسالته، والقبلة، واتِّباعه وتصديقه)، وما دام أنه الحق من ربك؛ فلن يستطيع أحد أن يبدِّله.
والحق بطبيعته لا بد أن يظهر ويبرز وينتشر؛ لأنّ المعركة بين الحق والباطل لا بد أن تنتهي بهزيمة الباطل.
{فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}: فلا: الفاء: للتوكيد؛ تكونن: ولم يقل تكن؛ الزيادة التوكيد (بالنون الثقيلة)؛ الممترين: جمع ممترٍ، وممترٍ اسم فاعل من امترى.
المراء: هو الجدال بالباطل بعد ظهور الحق.
إذن الممتري هو من يبقى يجادل بالباطل، بعد أن تبيَّن له الحق، أو أُخبر به.
والمراء: مأخوذة من مرئ الناقة أي: مسح ضرعها؛ أي: حلب الناقة وبقي يستحلب الناقة بعد أن أفرغت حليبها ظانّاً بأنه لا يزال في ضرعها حليب.
{الْمُمْتَرِينَ}: تعني: الشاكين (من الشك)، أو المتحيرين المتردِّدين.
حاشا لله أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الممترين، والخطاب؛ وإن كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو موجَّه إلى أمته عامَّة، ولذلك يجب على المؤمنين أن لا يدخلوا في جدال عقيم مع أهل الكتاب بعد ظهور الحق.
لنقارن هذه الآيات المتشابهة:
سورة البقرة، آية (١٤٧): {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
سورة الأنعام، آية (١١٤): {أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
سورة يونس، آية (٩٤): {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
سورة آل عمران، آية (٦٠): {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.
في آيات سورة البقرة والأنعام ويونس: أكد بالنون، ففي آية البقرة أكد؛ لأنّ السياق في تحويل القبلة، وما صاحَب ذلك من إرجاف وأقاويل، وحرب نفسية على المسلمين؛ حتّى ارتدَّ بعض ضعاف الإيمان.
كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: ١٤٣].
وفي آية الأنعام؛ أكد؛ لأنّ السياق في تكذيب الرّسول -صلى الله عليه وسلم- وعدم الإيمان به؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: ١١١].
وفي آية يونس؛ أكد؛ لأنّ السياق في الشك مما أنزلنا إليك، فلإزالة الشك نحتاج إلى التّوكيد، فجاء بالنون. واللام في {لَقَدْ}، وقد للتوكيد.
أما آية سورة آل عمران؛ جاءت في سياق خلق عيسى -عليه السلام- ، وأنّ الله خلقه، كما خلق آدم، وليس في ذلك خلاف وإرجاف، كما في الآيات الأخرى، لذلك لم يؤكِّد بالنون، وقال: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}.