سورة التوبة [٩: ٧٤]
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الْأَرْضِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ}:
سبب النّزول: كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- : المرجح أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب ذات يوم بغزوة تبوك؛ فذكر المنافقين الّذين تخلفوا عن تبوك، وسماهم رجساً، وعابهم، وبعد ذلك قال الجلاس بن سويد: والله لئن كان محمّداً صادقاً فيما يقول؛ فنحن أشرُّ من الحمير؛ فسمعه عامر بن قيس الأنصاري، وقال له: لقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنتم أشرُّ من الحمير، ولما عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ قام عدد من المنافقين ليقتلوا عامر بن قيس؛ فلجأ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأخبره بما قال الجلاس، وكان من سادة قومه؛ فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجلاس؛ فأنكر ما قاله، وحلف بالله أنّ ما قاله عامر بن قيس كذب، وعندها دعا عامر بن قيس الله أن ينزل على نبيه آية لتصديق الصّادق، وتكذيب الكاذب؛ فنزلت هذه الآية، واعترف الجلاس بما قاله، ثمّ تاب بعد ذلك وحسنت توبته، وتجاوزت هذه الآية إلى ذكر أشياء أخرى، منها: محاولة الفتك برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كما سنرى.
وقيل: نزلت في عبد الله بن أُبَيٍّ حين قال: رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذلَّ؛ فحلف أنّه لم يقل ذلك، وهذا ما قاله قتادة.
وقيل: نزلت في بعض المنافقين الّذين سبُّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وطعنوا في الدِّين، ثمّ حلفوا أنّهم لم يقولوا ذلك، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، هذا ما قاله الضحاك.
{يَحْلِفُونَ}: أي: المنافقون؛ أمثال: الجلاس بن سويد، أو عبد الله بن أُبَيٍّ، والحلف يعني هنا: الأيمان الكاذبة.
{مَا قَالُوا}: ما: النّافية، قالوا: ولم يُبين، أو يذكر ما قالوا؛ لأنّه غير مهم، أو الّذي قالوا من سبٍّ، أو طعن، أو كذب.
{وَلَقَدْ قَالُوا}: الواو: استئنافية؛ لقد: اللام: للتوكيد، قد: للتحقيق، والتّوكيد.
{قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}: لم يذكر الله سبحانه ما هي كلمة الكفر الّتي قالها المنافقون ترفعاً عن ذكرها، ولكي لا يردِّدها أحد، أو تذكر في كتاب الله الكريم، ولذلك لا داعي لمحاولة معرفتها، والتكهُّن بها.
{وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ}: عادوا إلى الكفر بعد أن أظهروا، أو ادعوا الإسلام بالنّطق بالشّهادة؛ أيْ: مجرَّد قول باللسان فقط.
{وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}: وهمُّوا على قتل الرّسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا (١٢) منافقاً، وكان ذلك عند العقبة، وفشلت مؤامرتهم لقتل النّبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتحقق ما هموا به، وقيل: كلّهم ماتوا، وهم على الكفر، ومحاربة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
{وَمَا نَقَمُوا}: الواو: استئنافية، ما: النّافية، نقموا: فيه تهكم عليهم، وتأكيد الشّيء بخلافه، وتعني: فليس هناك شيء بقي لهم؛ لينقموا: ليعتبوا، أو لا يرضوا بعد أن أغناهم الله، ورسوله من فضله؛ فقد كانوا كما قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قبل قدوم النّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في ضنك العيش فقراء؛ فلمَّا قدِم: غنموا، وصارت لهم الأموال، وقيل: إنّ الجلاس بن سويد لما قُتل له غلام على يد المسلمين دفع له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (١٢٠٠٠) درهم دِيةً؛ فبدلاً من شكر الله وحده على ما فضل الله عليهم ورسوله؛ كفروا، ونقموا، وهموا بما لم ينالوا.
{إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}: إلا: أداة حصر، أن أغناهم الله ورسوله من فضله: ولم يقل: من فضلهما، ولكنه قال: من فضله؛ لأنّ الله سبحانه لا يُثنى مع أحد، ولو كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، والفضل يعود إلى الله وحده، وإن كان رسول الله سبباً لذلك الفضل.
{فَإِنْ}: الفاء: للتوكيد، إن: شرطية؛ تفيد الاحتمال، والشّك.
{يَتُوبُوا}: من النّفاق، ومما قالوه، وفعلوه.
{يَكُ}: ولم يقل: يكن، يك: للدلالة على أنّ هذه التّوبة، ولو كانت بأقل الدرجات أفضل من كفرهم، ونفاقهم؛ فعسى الله أن يعفو عنهم حيث باب التّوبة ما زال مفتوحاً أمامهم.
{وَإِنْ يَتَوَلَّوْا}: عن التّوبة، والإيمان، ويعرضوا، ويصروا على النّفاق.
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الْأَرْضِ مِنْ وَلِىٍّ وَلَا نَصِيرٍ}: ولي: القريب المعين الّذي يكن لك المحبة، والمودة، ولا نصير: الّذي ينقذه من العذاب، أو يشفع له، أو يدفع عنه العذاب، من: تفيد الاستغراق، والتّوكيد.