للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة الأنعام [٦: ١٥٢]

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}:

{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ}: ولا تقربوا: أبلغ في النهي عن الأخذ، ولم يقل لا تأخذوا مال اليتيم؛ فمن لم يقرب لا يرى، ولا يطمع، أو تسول له نفسه؛ إلا: استثناء بالتي هي أحسن؛ أي: بما فيه صلاحه الذي يتضمن حفظ ماله، وتنميته، ومصلحته، ومصلحتكم، وعدم الأخذ من مال اليتيم إلا لضرورة، أو حاجة، وعدم تبذيره، أو إضاعته حتى يبلغ أشده.

{حَتَّى}: حرف غاية، معناها: انتهاء الغاية.

{يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}: قيل: أشده تعني: صار قادراً على إنجاب طفل، (ما بين ١٥-١٨سنة)، وهو سن الرشد، عندها ادفعوا إليه ماله. ارجع إلى الآية (٢)، والآية (٦) من سورة النساء؛ للبيان.

{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ}: أيْ: أتموا الكيل إذا كلتم للناس، والكيل، أو المكيال: يستعمل لما يكال حجماً.

والميزان: يستعمل لما يكال كثافة، أو وزناً، ويستعمل الكيلوغرامَ وأجزاءَه، والغرامَ، وأجزاءَه.

وتختلف الموازين بحسب الأشياء؛ فالذهب، والمواد الكيميائية؛ لها معايير، وموازين دقيقة جداً، وحساسة.

{بِالْقِسْطِ}: بالعدل؛ أيْ: تحروا العدل، وقيل: القسط: هو تطبيق أمر العدل وتنفيذه.

{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}: أيْ: عليكم أن تبذلوا أشد وسعكم، وطاقتكم؛ لتحقيق القسط؛ أيْ: إقامة العدل، وتنفيذه، وإذا فعلتم ذلك، وحدث خطأ غير متعمد، أو نقص، أو زيادة: لا يؤاخذكم الله به.

ومن المهم جداً: أن تعلم لماذا وردت هذه الآية: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؛ لأن الوزن بالقسط صعب تحقيقه أحياناً، فالوزن حين يكون بالميليغرام، أو النوانوغرام؛ من الصعب جداً التأكد منها.

فالله -جل وعلا- يعلم أن ذلك متعذِّر؛ فيغفر ذلك إذا لم يكن الخطأ متعمَّداً، وتوعَّد الله سبحانه هؤلاء الذين يتعمَّدون التلاعب بالمكيال، والميزان؛ بقوله -جل وعلا- : {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: ١-٥].

والفرق بين قوله في هذه الآية: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، وقوله تعالى في الآية (٣٥) من سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}: في آية الأنعام {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} تعني: في المستقبل إذا كلتم، أو وزنتم، فأوفوا الكيل، والميزان بالقسط.

في آية سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}؛ تعني: الآن، وأنتم تكيلون، أو تزنون؛ أوفوا الكيل، والميزان في حال كيلكم، أو وزنكم، وإياكم والتأخير؛ حتى لا يقول أحد: سأوفيه حقه لاحقاً، إذا كلتم: للتوكيد، إذا: شرطية، ظرفية.

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}:

{وَإِذَا}: ظرفية زمانية؛ تتضمن معنى الشرط.

{قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}: أيْ: إذا حكمتم، أو شهدتم في أمر ما؛ أيْ: دعيتم للشهادة بعد أن شهدتهم ما حدث؛ فاعدلوا؛ أيْ: قولوا: الحق، وأعطوا كل ذي حق حقه، وتحرُّوا العدل.

واحذروا الهوى واعدلوا، والعدل: هو القول الحق، وفعل الحق، فالعدل لا يقتصر على القول، بل يشمل الفعل أيضاً.

وهناك عدل في الأمور المادية الحسية، والأمور المعنوية، (والميل القلبي)، فاعدلوا.

{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}: ذا القربى؛ كالأب، أو الأخ، أو قرابة، فتميلوا بالهوى، فتحكموا عليهم أولهم من دون عدل، وخص ذا القربى؛ لأنه من أصعب الأمور أن تحكم على أبيك، أو أخيك، أو قرابتك.

ولكن هذا هو الإسلام، يأمرك بذلك.

وهذا الأمر جاء في آية أخرى، وهي الآية (١٣٥) من سورة النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.

{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}: العهد: يضم العقود، والمواثيق، والوعود، ويضم التكليف، والوصية، والأمر، والنهي، ومن قوله: {عَهِدْنَا}، و {وَصَّيْنَا}.

{وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}: الباء: تفيد الإلصاق، والتوكيد بالوفاء.

وقدَّم الجار والمجرور؛ للاهتمام.

{أَوْفُوا}: أتموا، ونفذوا العهد.

ما هو الفرق بين قوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: ١٥٢].

وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا} [الإسراء: ٣٤].

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: ٩١].

ففي آية سورة الأنعام: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}: العهد هنا ما عهده الله إلى عباده من ميثاق، أو عهد؛ كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}.

ويضم العهد هنا: عقود البيع، والشراء، والزواج.

وأضاف العهد إليه سبحانه؛ أهميةً، وتفخيماً.

وقدَّم الجار والمجرور؛ للعناية، والاهتمام، والحصر، والقصر، والتوكيد.

أما في آية سورة الإسراء: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـئُولًا}: فهذا العهد: هو الذي يعقده الشخص باختياره؛ أي: النذر الذي هو عهد يلزمه الإنسان على نفسه باختياره؛ لقوله: {إِذَا عَاهَدتُّمْ}.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: ذلكم: ارجع إلى الآية (١٥١).

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}: لعل: تفيد التعليل أو الترجي أو الإشفاق؛ لأن هذه الأمور الأربعة: من عدم أكل مال اليتيم، والوفاء بالكيل، والميزان بالقسط، وقول العدل، والوفاء بالعهد أمور قابلة للنسيان، فذكرها لكم المرة بعد الأخرى لعلكم لا تنسوها؛ أيْ: تذكروها.

أو كأنهم يبدو أنهم نسوا أنهم كانوا يعملون تلك الأعمال في السابق؛ فهو يذكرهم بها مرة أخرى.

فقال: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، ولم يقل: لعلكم تتذكرون؛ لأنهم لا يحتاجون إلى زمن طويل، لتذكر القيام بتلك الأعمال، وكأنها حاضرة لديهم. ارجع إلى الآية (١٥١) في نفس السورة للمقارنة والبيان.