سورة البقرة [٢: ٢٢]
{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}:
{الَّذِى} اسم موصول تعود على ربكم، الذي جعل لكم الأرض فراشاً.
{جَعَلَ}: صير، وهيأ، والجعل يأتي بعد الخلق. قال: {جَعَلَ}؛ ولم يقل: جعلنا؛ للدلالة على وحدانيته جل جلاله. ولو قال: جعلنا؛ لكانت دلالة على التعظيم، وكمال قدرته -جل وعلا- .
{لَكُمُ الْأَرْضَ}: خاصة لكم، أيها النّاس خلق الله تعالى الأرض على مراحل متعددة:
١ - مرحلة الجرم: كانت الأرض والسماء كجرم متناهٍ في المادة والطاقة.
٢ - فجر الله ذلك الجرم فتحول إلى سحابة من الدخان خلق منها أرضاً واحدة وسماء واحدة تسمى الأرض الابتدائية.
٣ - ميز الله تعالى الأرض الابتدائية التي كانت عبارة عن كومة من الرماد بإنزال الحديد (ارجع إلى سورة الحديد) إلى سبع أرضين…
٤ - ثم شكل قشرة الأرض.
{فِرَاشًا} يقصد بالأرض هنا قشرة الأرض، فقد بدأت هذه القشرة بتضاريس معقدة بدأت بالحمم البركانية الّتي خرجت على ظهر الماء الذي كان يغمر كتلة الأرض بعد تمايزها بالحديد إلى سبع أرضين. فشكلت هذه البراكين ما يسمى بالحافة في وسط المحيط الذي تطور إلى سبع محيطات ثم امتدت هذه الجزر البركانية فشكلت القارة الأم الّتي تصدعت بشبكة من الصدوع إلى ما يسمى القارات، ثم تباعدت وشكلت لنا القارات السبع الآن، ولا تزال تتحرك، ولكن حركتها بطيئة مقارنة بسرعتها القديمة، وأخرج منها ماءها ومرعاها وألقى فيها الرواسي, وتشكلت الأنهار بعد تشكل الجبال.
وسخَّر الله تعالى عوامل التعرية من الرياح والمياه الجارية واختلاف الحرارة وتباين الليل والنهار وشكَّل قشرتها الممهدة في بعض أجزائها، فقد كانت الأرض كتلة ملتهبة من الحمى، وظلت تبرد تدريجياً، بفعل فقدها بخار الماء المندفع من بين شقوها، وفوهات البراكين، وبعد فترة طويلة قدرت بمليار عام، أصبحت حرارتها مناسبة، وتصلبت قشرتها، أمسكت بمائها في بحيرات صغيرة وكبيرة، وغدت الأرض كوكباً، من محيط مائي ذاب من معادنها، ما ذاب، وظهرت عناصر الحياة عليها، الّتي تسمى اليوم بالطحالب الزرقاء، ثم ظهرت النباتات العشبية، ثم السرخسيات، ثم ظهرت النباتات المزهرة، والثمار، وهكذا.
وبفضل قانون الجاذبية استقر الإنسان على ظهرها ومع كونها تدور حول نفسها بسرعة (٢٦كم/ بالدقيقة)، وتدور حول الشمس في مدار طوله (٩٥٠مليون كم بسرعة ٣٠كم/ بالثانية)، فالإنسان لا يشعر بهذا الدوران؛ لأنه يدور مع دوران الأرض، وهذا التفسير جزء من الحقيقة العلمية.
وفي آية أخرى قال سبحانه: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: ١٠]: {مَهْدًا}: صالحة للحياة.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}: تعريف السماء لغة: هي كل ما علاك، فأظلك، وتعني: السموات السبع الطباقَ؛ أي: السبع كرات الّتي تحيط كل واحدة بالأخرى.
{بِنَاءً}: أي: مبنية، بناء محكماً، مترابطاً، وليس فراغاً، كما كان يظن النّاس، يملؤه غازات مختلفة، وتحكمه قوى الجاذبية، بين مليارات المجرات، والكواكب، والنجوم التي تزيد على (٢٠٠ مليار نجم) في المجرة الأرضية وحدها، فكل كتلة تجذب أختها، وتجعلها مستقرة {كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: ٣٣]؛ حسب نظام إلهي، عجيب، بناء كالسقف {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا} [الأنبياء: ٣٢]، كما سنرى في سورة الأنبياء.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ}:
{وَأَنْزَلَ}: للدلالة على التوحيد، مقام توحيد، ولم يقل: (وأنزلنا)؛ للدلالة على التعظيم، وأنزل سبحانه {مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}: أي: من السحب ماء؛ أي: ماء المطر. ويقصد بهذه الآية دورة الماء حول الأرض.
{فَأَخْرَجَ بِهِ}: الفاء السببية، {فَأَخْرَجَ بِهِ}: بهذه الماء، {مِنَ الثَّمَرَاتِ}، من: ابتدائية، وتفيد التبعيض؛ أي: من بعض الثمرات، ليكون رزقاً لكم، لم يجعل الرزق كله من الثمرات.
{رِزْقًا لَّكُمْ}: والرزق؛ هو كل ما ينتفع به، وليس حراماً؛ أي: لا يكون الرزق إلَّا حلالاً.
{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}:
{فَلَا}: الفاء؛ للتوكيد، لا: الناهية.
{أَندَادًا}: جمع ند، والند هو النظير، أو الشبيه المثيل، أو الضد، أو الشريك، وناددت الرجل: خالفته، ونافرته، وأصله: من ند البعير؛ أي: نفر، وذهب على وجهه شارداً، إذن، فيها معنى التشابه، والتضاد، والتنافر، والمراد هنا؛ الشريك لله، في عبادته، فلا تجعلوا لله أمثالاً، ونظراء تعبدونها، وتسمونها آلهة، وتجعلون لها ما لله من حقوق.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}: أنّ الله وحده المستحق للعبادة، وأنّ هذه الأنداد لا تجلب لكم نفعاً ولا ضراً.