سورة غافر [٤٠: ٣٤]
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}:
يتابع الرّجل المؤمن النّصح لقومه ويلجأ إلى الاستعانة بالتّاريخ فيقول:
{وَلَقَدْ}: الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق؛ أي: تحقق وحدث ذلك.
{جَاءَكُمْ}: أي جاء وكان مجيئه بمشقة وصعوبة وليس بسهولة، والمخاطب هو فرعون وقومه؛ أي: جاء آباءكم وأجدادكم.
{يُوسُفُ}: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام.
{مِنْ قَبْلُ}: من قبل موسى عليه السّلام الّذي تريدون قتله أو عدم تصديقه. انتبه حين قال: جاءكم يعني جاء آباءكم وأجدادكم؛ لأنّه حين جاء كان الحاكم هو عزيز مصر ولم يكن هناك أيّ فرعون، وتفسير ذلك: أن الهكسوس دخلوا مصر قبل مجيء يوسف وقضوا على حكم الفراعنة وألغوا الفرعونية وجعلوا أنفسهم ملوكاً، فجاء يوسف في زمن حكم هؤلاء، ثم بعد ذلك عادت الفرعونية إلى مصر وراحوا يضطهدون بني إسرائيل؛ لأنّهم كانوا موالين ومن أنصار الملك العزيز.
فهذا الرّجل المؤمن يعلم القصة التّاريخية فجاء بها ليذكّرهم بما حدث لعلّهم يؤمنوا بموسى.
إذن: جاءكم يوسف: يوسف لم يجئ لهم وإنما جاء لآبائهم فنسب ما للآباء للأبناء؛ لاشتراكهم جميعاً في الضّلال والتّكذيب بالرّسل فليس هناك فارق بينهم وبين آبائهم وأجدادهم.
{بِالْبَيِّنَاتِ}: بالآيات الدّالة على وحدانية الله والدّالة على صدق نبوته، والبينات: هي تأويل الأحلام، ولنذكر قول يوسف حين دعا صاحبي السّجن فقال: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَاءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَىْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: ٣٧-٤٠].
{فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ}: الفاء للتوكيد.
زلتم في شك مما جاءكم به؛ أي: كنتم في شك. الشّك: هو التّردد بين أمرين على حد سواء (أي تساوي طرفي الإثبات والنّفي) طوال زمن يوسف؛ أي: كنتم تشكون في صدق رسالته وعبادة الله وحده؛ أي: كفرتم به.
{حَتَّى إِذَا هَلَكَ}: حتّى حرف نهاية الغاية، إذا ظرف زماني للماضي وشرطية تفيد حتمية الحدوث.
هلك: أي مات يوسف.
{قُلْتُمْ}: القائل قد يكون ممن عاصر يوسف أو ممن جاء بعدهم من أسلافهم.
{لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}: لن لنفي المستقبل القريب والبعيد (أي موسى وغير موسى) أي: قلتم ذلك وحكمتم بدون علم ولا برهان وفي نيتكم تكذيب أيّ رسول سواء كان يوسف من قبل أو موسى الآن.
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ}: كذلك: أي مثل هذا الضّلال يكون حال من يضله الله تعالى؛ لإسرافه في المعاصي.
مسرف: متجاوز الحد في المعاصي والشّرك والكفر.
مرتاب: من الرّيبة وهي: الشّك والتّهمة, وسبقها القول: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} ولذلك جاء بعدها مسرف مرتاب. ارجع إلى الآية (٢٨) في نفس السورة للمقارنة.
أي: هو مسرف في فعل المعاصي ومرتاب في دينه؛ أي: يشك ويتّهم الآخرين بالباطل؛ لكي يجد لنفسه مبرراً لعدم إيمانه.