سورة إبراهيم [١٤: ٣٤]
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}:
{وَآتَاكُمْ}: من الإيتاء: وهو العطاء الّذي يمكن استرداده، وليس فيه معنى التّملك، كما هو الحال في العطاء الّذي فيه تملك. ارجع إلى سورة البقرة آية (٢٥١)؛ لمزيد من البيان.
{مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}: من: بعضية؛ بعض ما سألتموه؛ لأنّ هناك أسئلة لا يستجيب لها سبحانه؛ مثال: أن يسأل العبد ربه أن يجعله نبياً، أو أن يبدل مهنته من فلاح إلى طبيب مثلاً، ولا ننسى أن بعض حالات عدم الاستجابة للدعاء نعمة للعبد؛ مثال: أن يدعو الأب على ابنه بالموت أو الفقر، أو الأم على ابنها.
{مَا}: اسم موصول، أو مصدرية.
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}: وإن: شرطية تفيد الشّك، أو الاحتمال، أو الافتراض، والعد هو مجرد العد، ويكتفى به باللسان. أمّا الإحصاء: فهو العد مع الحفظ (حفظ ما نعد)، والإحصاء مشتقة من الحصى؛ حيث كانوا قديماً يستعملون الحصى في العد.
{نِعْمَتَ اللَّهِ}: نعمة واحدة من نعم الله. ارجع إلى الآية (٦) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين نعمة ونعمت.
{لَا}: النّافية.
{تُحْصُوهَا}: الإحصاء: هو العد والجمع والحفظ؛ لأنّها تنطوي على نعم كثيرة جداً؛ فلا أحد يستطيع أن يعد نعم الله في الكون، أو على خلقه، أو عليه نفسه؛ فمثلاً: نعمة الصحة والعافية تشمل نعمة العقل، الدماغ، والقلب، والصدر، والمعدة، والكبد، والعين، والأذن، والجلد، والأسنان… وغيرها من الكثير.
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}: إنّ: للتوكيد.
{الْإِنسَانَ}: مشتقة من الإنس، وهو الألفة، والمحبة الّتي يمتاز بها الإنسان عن غيره.
{لَظَلُومٌ}: اللام: للتوكيد؛ ظلوم صيغة مبالغة؛ أي: كثير الظّلم لنفسه أو لغيره، وظلوم لا يشكر المنعم، أو هو مستمر على ظلمه بشكل متكرر، وظلوم أشد من ظلام.
{كَفَّارٌ}: صيغة مبالغة شديد الكفر، أو كثير الكفر لنعم الله؛ يجحدها بشكل متكرر ومتجدد ولم يقل ظلوم كفور؛ يعني: دائم الكفر وأشد من كفار، وينسى أن يشكر المنعم؛ مشتقة من الكفر ومعناه: السّتر، أو يشكر غير الله سبحانه؛ أي: يشرك بالله؛ فهو يأكل من نعم الله سبحانه ويشكر غيره.
وإذا قارنا هذه الآية من سورة إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
مع الآية (١٨) من سورة النّحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
نجد أوّلاً: اختلاف في كتابة نعمت بالتّاء المفتوحة في آية إبراهيم، وبالتّاء المربوطة في آية النّحل.
والفرق بينهما: أنّ نعمت؛ تعني: الدّين، والإيمان، والهداية خاصة بالمؤمنين، أو نِعَم لا يمكن إحصائها كثيرة.
أما نِعمة: تتحدث عن نعم الله الظّاهرة للعيان، أو نعم عامة للبشر، أو وكذلك تشير إلى خط المصحف هو توقيفي لم يناله أي تغيير ولا تبديل، ولا تحريف منذ أنزله الله على نبيه محمّد -صلى الله عليه وسلم-.
أمّا اختلاف نهاية الآيتين يعود في سورة إبراهيم؛ لأنّها تتحدث عن صفات الإنسان؛ فقال: إنّ الإنسان لظلوم كفار، ويمكن القول إنّ الإنسان لظلوم كفار؛ لعدم شكر الله المنعم، ولعدم إحصاء نعم الله؛ لكثرتها.
أمّا سورة النّحل: تتحدث عن صفات الله سبحانه، ونِعَمُه، وإنّ الله لغفور رحيم؛ أي: سيغفر لكم عدم إحصاءكم لنِعمه، وعدم شكرها، وكأن آية النحل متممة لآية إبراهيم؛ فإن كنت ظلوماً، كفاراً؛ فاعلم أن الله سبحانه غفوراً رحيماً؛ فقابل صفتين من صفات الإنسان: الظلم والكفر، بصفتين من صفات الرحمن: الغفور والرحيم.
ولو عاملنا الله بعدله: يصبح الإنسان ظلوم كفار، ولكن يعاملنا سبحانه بفضله، ويغفر لنا؛ لأنّه هو الغفور الرّحيم، وانتبه إلى الفرق بين نِعمه بكسر النّون، ونَعمه بفتح النّون. ارجع إلى الآية (٢٧) من سورة الدّخان، والآية (١١) من سورة المزمل.