سورة آل عمران [٣: ١٥٢]
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}:
{وَلَقَدْ}: الواو: استئنافية، لقد: اللام: للتوكيد بصدق الوعد، وقد: حرف تحقيق وتوكيد.
{صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ}: في بداية المعركة (معركة أحد)، ولقد صدقكم الله وعده بالنصر، قيل: كان جواباً على ما قاله بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعهم من أُحد، فقد قال قوم منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله بالنصر؛ فنزلت هذه الآية، والنصر دام أو استمر حتى خالفوا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وترك معظم الرماة مواقعهم على جبل أُحد قبل انتهاء المعركة طمعاً في الغنائم.
{إِذْ}: ظرف زماني للماضي.
{تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ}: الحس هنا: هو القتل، يقال: حسه؛ أي: قتله، بإذنه: بإرادته، وأمره تعالى، وتحسونهم: تعني تقتلونهم قتلاً ذريعاً، وهذا ما حدث في بداية المعركة؛ حيث قُتل أحد عشر رجلاً من حملة لواء المشركين، ولم يبق منهم أحد يحمله حتى أصبح حمل لواء المشركين شؤماً عليهم ما يدنو منه أحد إلا قُتل؛ فتركوه على الأرض، واستبسل المسلمون في القتال.
وقُتل عدد قليل من المسلمين في بداية المعركة، ومنهم حمزة -رضي الله عنه- ، وظل المسلمون مسيطرين على أرض المعركة، وبدأ المشركون ينهزمون من أرضها أمام المسلمون، ورأى الرماة هزيمة المشركين، ورأوا أصحابهم يظفرون بغنائم العدو عندها ترك الرماة أماكنهم إلا عشرة منهم فقد ثبتوا في أماكنهم.
{حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ}: حتى: حرف غاية، وجر، وتحمل معنى إلى نهاية الغاية.
فتكون الآية: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إلى أن فشلتم وتنازعتم في الأمر.
{إِذَا}: ظرفية تحمل معنى الشرط.
{فَشِلْتُمْ}: قال بعض المفسرين: هناك تقديم وتأخير في هذه الآية، وأصلها حتى إذا تنازعتم في الأرض وفشلتم وعصيتم، وبعض المفسرين قالوا جاء ترتيبها كما حصلت وليس هناك تقديم أو تأخير أي حتى إذا فشلتم: جبنتم، وضعفتم أمام عدوكم، والفشل يعني كذلك الخسارة، وتقديم النتيجة على ذكر السبب وهو الاختلاف والعصيان الذي حدث أولاً لكي يشعرهم بعظمة الذنب الذي ارتكبوه.
{وَتَنَازَعْتُمْ فِى الْأَمْرِ}: التنازع: يعني الاختلاف في الرأي الذي يؤدي إلى الخصومة، والأمر هو أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إياهم بعدم ترك مواقعهم مهما حدث، فالأكثرية قالوا: ننسحب ونذهب إلى الغنائم، وجماعة قالوا: نثبت مكاننا، كما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل اختلفتم وإنما سمى المخالفة عصياناً؛ لأن المقام مقام جهاد وليس اجتهاد فلا بد من الطاعة المطلقة للرسول دون تأويل.
{وَعَصَيْتُم}: أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بترك مكان الرمي في الجبل.
{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ}: من النصر في بداية المعركة.
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}: منكم: الخطاب إلى الصحابة الذين شاركوا في أحد وعصوا الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ منكم من يريد الغنائم؛ فانسحب، وترك مكانه في الجبل عارياً، ونزل إلى الميدان.
{وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}: وبعضكم ثبت في مكانه، ولم ينسحب، ويركض وراء الغنائم، وهم أقل من (١٠) استشهدوا، ومنهم عبد الله بن جبير.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : والله ما كنت أعلم أن أحداً من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزلت فينا يوم أحد هذه الآية.
{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ}: ثم: للترتيب العددي، وليس للتراخي.
{صَرَفَكُمْ}: الصرف: هو التحويل؛ أي: حفظكم من المشركين، وأبقاكم أحياء حتى حين؛ ليبتليكم: أي: ليختبركم فيما بعد، واللام: للتعليل، أو صرفكم عنهم من بعد أن كنتم مشغولين بقتالهم، وقبل أن تنظروا إلى الغنائم. وقيل: عفا عنكم: أي: لو شاء لسلط عليكم المشركين فقتلوكم أجمعين.
{وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}: لأنه عفا عنهم لتركهم مواقعهم في الجبل، وركضهم وراء الغنيمة، وكذلك لم يستأصلوكم، ويقتلوكم جميعاً؛ لأنه سبحانه ذو فضل: صاحب الفضل، والجود على المؤمنين.