للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة البقرة [٢: ٢١٤]

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}:

سبب النّزول: قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الشّدة، والفقر، والبرد، وسوء العيش، وبلغت القلوب الحناجر.

المناسبة: في الآية السّابقة (٢١٣) قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}: مبشرين بالجنة، ومنذرين بالنّار، فجاءت هذه الآية تتمة لها؛ لتخبر هؤلاء المبشرين بالجنة بأنّ دخولها يحتاج إلى صبر، ومجاهدة، وتحمل الزّلزلة.

{أَمْ}: للإضراب الانتقالي، والهمزة: للاستفهام الإنكاري، ينكر على هؤلاء ظنهم بدخولهم الجنة من دون ابتلاءات شديدة.

{حَسِبْتُمْ}: اعتقدتم به من حسب، والحساب نوعان: حسي «العادي»، وحساب قلبي؛ مبني على النّظر، والتّجربة، وحسبتم من الحساب القلبي.

{أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}: {أَنْ}: حرف مصدري يفيد التّوكيد، {تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}.

{وَلَمَّا يَأْتِكُم}: لما: للنفي المستمر إلى زمن الحال.

{يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم}؛ أي: حسبتم أنكم ستدخلون الجنة من دون أن تفتنوا وتبتلوا بمثل ما فتن وابتُلي الّذين من قبلكم، {مِنْ}: ابتدائية، وتفيد الزّمن القريب.

{مَّسَّتْهُمُ}: المس: هو اللمس الخفيف الّذي لا يكاد يذكر.

{الْبَأْسَاءُ}: الفقر، والشّدة، والجوع، والخوف.

{وَالضَّرَّاءُ}: المرض، والألم، ونقص في الأموال، والأنفس والجراحات، والقتال، والعواصف، والكوارث الطّبيعية، وسواء كانت فردية، أو جماعية.

{وَزُلْزِلُوا}؛ أي: أصابتهم المصائب الكبرى والمتكررة، وبأشكال ودرجات متنوعة، كلمة زلزلوا: لها تعبير صوتي خاص، وهذه الكلمة أصلها: زلزلة، وهذه الكلمة لها مقطعان: زل الأولى، وزل الثّانية، وزل معناها: سقط عن مكانه، أو وقع من مكانه، والثّانية: زل لها نفس المعنى فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر، هناك وقوع أوّل ووقوع ثان، والوقوع الثّاني ليس استمراراً للوقوع الأوّل، ولكنه في اتجاه معاكس، فكأنّ الأوّل في اتجاه اليمين، والثّاني في اتجاه الشّمال مثلاً.

وكذلك مثل كلمة الخلخلة: حركة في اتجاهين معاكسين، جهة اليمين، وجهة الشّمال، وهذا ما يحدث في حادثة الاصطدام، فالجسم في السّيارة يتحرك مندفع مع اتجاه السّيارة، فعندما يكبح السّائق جماح السّيارة يندفع جسم الراكب، ويلتطم بالزجاج، وهذا مثال لما يحدث في الزّلزلة.

{وَزُلْزِلُوا}: أصابتهم الفاجعة، والمصائب الكبرى المتكرر الواحدة بعد الأخرى، وهي لا تتكرر على نمط واحد، وإنما يتكرر عددها، وتتكرر الإصابات، والابتلاءات بأشكال مختلفة، حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله.

{حَتَّى}: حرف غاية نهاية الغاية، وهو حتّى أن يقول الرّسول والّذين آمنوا معه.

{يَقُولَ}: انتبه إذا جاء الفعل بعد حتّى منصوب بالفتحة، فهو يدل على أنه لم يقع، ولو جاء الفعل بعد حتّى مرفوع بالضمة؛ كقوله: حتّى يقولُ: تدل على الماضي؛ أي: وقع الفعل (بالماضي).

وإذا جاء الفعل بعد حتّى منصوباً يدل على الاستقبال، مثل حتّى يقولَ؛ يعني: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يقولوا ذلك، ولم يشكوا في نصر الله.

{الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}: «-صلى الله عليه وسلم- وصحابته».

{مَتَى}: ظرف زمان واستفهام يتضمن معنى الاستبطاء والاستبعاد.

{نَصْرُ اللَّهِ}: الفوز، والغلبة. انظر إلى الفرق بين النّصر والفتح في سورة النّصر، النصر الغلبة بالقوة، والسّلاح، والعتاد، والفتح: النصر من دون قتال، أو معركة.

{أَلَا}: حرف استفتاح تفيد التّحقيق؛ أي: أنّ نصر الله قريب، إنّ: للتوكيد، والسّؤال هنا من قال متى نصر الله، ومن أجاب ألا إن نصر الله قريب

الاحتمال الأول: من قال، أو سأل: هم الصّحابة أنفسهم، ومن أجاب هم أنفسهم أيضاً؛ أي: تساءلوا أوّلاً، ثم ثابوا إلى رشدهم، وأجابوا أنفسهم: إنّ نصر الله قريب فما علينا إلَّا الصبر والتّوكل.

الاحتمال الثّاني: ربما هناك قسم منهم قالوا: أو تساءلوا متى نصر الله، وقسم آخر منهم أجابوهم: إن نصر الله قريب.

الاحتمال الثالث: الّذين تساءلوا، أو قالوا: متى نصر الله؟ هم الصّحابة، والّذين أجابهم: إنّ نصر الله قريب: هو الرّسول -صلى الله عليه وسلم-.

الاحتمال الرابع: الّذين تساءلوا الصّحابة، أو غيرهم من النّاس، والّذين أجابهم هو الله سبحانه عن طريق جبريل -عليه السلام- ، أو الإيحاء، والإلهام.

{أَمْ حَسِبْتُمْ}: وردت في ثلاث آيات مختلفة في السّياق، وهي:

سورة البقرة، الآية (٢١٤): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}.

سورة آل عمران، الآية (١٤٢): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ}.

سورة التوبة، الآية (١٦): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً}.

إذا نظرنا في سياق آية البقرة: نجد أنّها جاءت في سياق النّصر، وأنّ الصّحابة يجب أن يصبروا على البأساء والضّراء، كما صبر الّذين خلوا من قبلهم.

وأما في آية آل عمران: فقد جاءت في سياق الجهاد، وما حصل للمؤمنين يوم أحد من الهزيمة، والقتل، والجراحات، فهي تحثهم على الثّبات، والصّبر رغم هزيمتهم.

وأما آية التّوبة: فقد جاءت في سياق التّحذير من النّفاق، وإفشاء الأسرار للأقارب، أو الكفار المعاندين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهناك احتمال آخر هو: كلّ الآيات جاءت في سياق الجهاد.

فآية التّوبة: تشير إلى أهمية السّرية، وكتم الأخبار، والأنباء قبل المعركة، والاستعداد لها.

وآية البقرة: تشير إلى أهمية الثّبات، والصّبر في أرض المعركة.

وآية آل عمران: تشير إلى أهمية الصّبر، والثّبات بعد المعركة، خاصة إذا حصلت هزيمة.