سورة لقمان [٣١: ١٢]
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}:
{وَلَقَدْ}: الواو استئنافية، لقد: اللام للتوكيد، قد: للتحقيق والتوكيد.
{آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}: الإيتاء هو العطاء بدون تملك؛ أي: يمكن استرداد ما أُعطي، والإيتاء يشمل الأشياء المادية والحسية والمعنوية، فهو أعم من العطاء. والإيتاء قد يكون بشكل خفي، والإيتاء هنا في هذه الآية يعني: الإلهام.
أو آتيناه الحكمة، وكما قال سبحانه: {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: ٢٦٩].
{لُقْمَانَ}: اختلف المفسرون فيه؛ فمنهم من قال: لقمان بن ثادان رجل صالح، كان حكيماً، أعطاه الله الحكمة، عاصر داود، وقيل: أخذ عنه العلم، ولم يكن نبياً في أكثر الروايات، وقيل: كان حبشياً، أو من سودان مصر.
وليس هناك سند صحيح يدل على نبوته.
{الْحِكْمَةَ}: ارجع إلى الآية (٢٦٩) من سورة البقرة لبيان معنى الحكمة. وقيل: هي إحسان القول وإحسان العمل معاً، أو توفيق القول بالعمل.
{أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}: أن: تعليلية أو تفسيرية للحكمة؛ وتعني:
آتيناه الحكمة ووصيناهُ بالشكر لله.
أو آتيناه الحكمة أن اشكر لله؛ أي: من الحكمة أن تشكر الله.
أو آتيناه الحكمة أن اشكر لله لما آتاك من الحكمة.
انتبه إلى قوله تعالى: آتينا، أن اشكر لله، آتينا: جاءت بصيغة الجمع والتعظيم، أن اشكر لله بصيغة الإفراد؛ للدلالة على التوحيد.
أن اشكر لله: أي اشكر الله وحده بإخلاص بلا شرك، أو شكراً خالصاً لوجهه، وشكر الله نصف الإيمان، والشكر نوع من العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]، والشكر أخص من الحمد فالحمد أوسع من الشكر وأعم؛ أي: احمده على إنعامه لك وإنعامه لغيرك.
والشكر خاص بالإنعام الّذي وصل لك وحدك.
الحمد لله: تعني هو المحمود على الإطلاق مني ومن غيري.
وكلمة الحمد تحمل في طياتها التعظيم والمحبة.
{وَمَنْ يَشْكُرْ}: الواو استئنافية، من: شرطية، يشكر: جاءت بصيغة الفعل المضارع؛ لتدل على التجدد والتكرار لأن الشكر يجب أن يتكرر؛ أي: يتجدد على مر الزّمن من العبد؛ لأن كل نعمة يجب أن يشكر العبد ربه عليها سواء كانت نعمة ظاهرة أو خفية أو ابتلاءً بالشر أو الخير.
{يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}: أي فائدة شكره تعود عليه وليس على الله سبحانه؛ لأن الله غني عن العالمين وعن شكرهم، وقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: ٧] فكلما شكرته زادك.
{وَمَنْ كَفَرَ}: الواو استئنافية، من: شرطية، كفر: جاءت بصيغة الماضي وليس بصيغة المضارع كقوله: ومن يكفر؛ لأن المفروض أن الكفر لا يتجدد ولا يعود ولا يتكرر أبداً ولذلك قال تعالى: ومن كفر، بعكس الشكر.
{فَإِنَّ اللَّهَ}: الفاء رابطة للجواب، إن: للتوكيد.
{غَنِىٌّ}: عن خلقه وعن شكرهم وحمدهم وعبادتهم.
{حَمِيدٌ}: صيغة مبالغة على وزن فعيل، أبلغ من محمود على وزن مفعول.
محمود في ذاته قبل أن يوجد من يحمده من خلقه؛ لأنه يستحق الحمد على كل شيء، حميد على الدوام، حميد من خلقه.
غني حميد: يدل على الكمال؛ لاجتماع الغنى والحمد، فقد يكون غنياً وغير حميد أو حميداً وغير غني.
ولو قارنّا هذه الآية من سورة لقمان: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ} مع الآية (٨) من سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ}، نجد زيادة اللام في آية سورة إبراهيم: {لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} والتي تدل على التّوكيد؛ لأن آية سورة إبراهيم فيها: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا} ومن هذه استغراقية؛ تعني: كل كفار الأرض، وقال: (جميعاً) توكيداً، لذلك أكَّد مقابل ذلك بقوله: {لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ}.
وقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا}: بصيغة المضارع التي تدل على تجدد كفرهم وتكراره، فسبحانه أبداً (لغني حميد) ولو كفر كل أهل الأرض جميعاً وتجدد كفرهم واستمر.
أما الاختلاف بين آية النّمل (٤٠)، وآية لقمان (١٢):
آية النّمل: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ}: ومن شكر (مرة واحدة) فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم.
آية لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}: ومن يشكر (يتكرر شكره) فإن الله غني حميد.
فيكون المعنى بأنّ الله غني عن خلقه وعن شكرهم وحمدهم سواء كان مرة واحدة أو تجدد وتكرر
ربي كريم: لا يتوقف عن إعطاء الكافر والمؤمن في الدنيا، ومن شكر ومن لم يشكر.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}: حميد يستمر حمده وثناؤه رغم انقطاع حمد عبده أو عباده أو شكره أو شكرهم جميعاً.
لنقارن هذه الآيات الثلاث التالية:
سورة الروم آية (٤٤): {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}
سورة لقمان آية (١٢): {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ}
سورة النّمل آية (٤٠): {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ}.
ـ في سورة الروم: قدّم الكفر وأخّر العمل الصالح وذكر عاقبة كلٍّ من الفريقين بقوله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} وذكر الفعلين الكفر والعمل الصالح بصيغة الماضي.
ـ في سورة لقمان: قدّم الشكر على الكفر وجاء بصيغة المضارع: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وبصيغة الماضي للكفر: {وَمَنْ كَفَرَ} فإن الله غني عن العالمين.
ـ في سورة النّمل: قدّم الشكر على الكفر وجاء بصيغة المضارع للشكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وبصيغة الماضي للكفر: {وَمَنْ كَفَرَ} فإن ربي غني كريم.
هذه الاختلافات يمكن إيضاحها:
١ - بأن فعل الشكر ينبغي أن يتجدد ويتكرر من العبد فلذلك يجيء به بصيغة المضارع التي تدل على التجدد والتكرار، أما الكفر ينبغي ألا يتجدد أو يتكرر من العبد ولذلك جاء به بصيغة الماضي.
٢ - في سورة لقمان، لقمان الّذي يتكلم، وهو رجل حكيم، طبعاً يبدأ بالشكر، وكذلك في سورة النّمل: سليمان عليه السلام الّذي يتكلم وهو قد آتاه الله من الملك ما لم يؤت أحداً من العالمين، فكان عليه أن يبدأ بالشكر، وآية سليمان ولقمان في سياق الدنيا.
أما في سورة الروم السياق هو في الآخرة؛ لقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. من كفر (في الدنيا)، ومن عمل صالحاً (في الدنيا).
إذن السياق في الآخرة فجاء بصيغة الماضي في كليهما.