للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سورة المنافقون [٦٣: ١٠]

{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}:

{وَأَنْفِقُوا}: الإنفاق: هو إخراج المال من الملك فلا يعد ملكه.

{مِنْ مَا رَزَقْنَاكُم}: من ابتدائية تدل على التّبعيض؛ أي: من بعض (ما) بمعنى: الّذي رزقناكم؛ أي: المال وغيره, و (ما) أوسع شمولاً من (الذي) ولو قال تعالى أنفقوا ما رزقناكم، لكان يعني: كلّ ما رزقناكم، وهذا مستحيل ولن تقدروا عليه، أنفقوا من ما رزقناكم؛ أي: من مال الله الذي رزقكم وفي هذا حثٌّ على الإنفاق والصّدقة.

{مِنْ قَبْلِ}: ولم يقل من قبلُ: من قبل بكسر اللام: الزّمن غير محدد قد يطول أو يقصر؛ أي: في أيّ زمن. ولو قال من قبلُ: تدل على تعيين زمن محدد، ومن قبل تشير أيضاً إلى قرب الموت من أحدكُم؛ أي: لا فاصل زمني بين الإنسان وأجله، كأنّ الموت ملتصق به.

{أَنْ يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ}: أنّ حرف مصدري للتعليل والتّوكيد.

يأتي أحدكم الموت: ولم يقل من قبل أن يأتي الموت أحدكم، تقديم المفعول به (أحدكم) على الفاعل وهو الموت؛ للمبالغة والاهتمام بالنفس (أحدكُم) للاستعداد والتّحضير للموت، أو أخّر ذكر الموت؛ لأنّ الموت شيء مكروه للنفوس ولا تحب سماعه.

وفائدة أخرى في التّأخير: لتجنّب المفاجأة؛ أي: مجيء الموت؛ لأنّ الإنسان يخاف من الموت ولذلك أخّره وحتّى لا يفاجأ به، واختار كلمة (يأتي) ولم يقل من قبل أن يجيء أحدكم الموت؛ لأنّ المجيء فيه صعوبة ومشقة على النّفس، والموت لم تبدأ سكراته بعد فلو بدأت سكراته لاستعمل جاء، وبما أنّه سيحدث في المستقبل ولم يجيء بعد اختار (يأتي).

{فَيَقُولَ}: الفاء تدل على التّرتيب والتّعقيب، والنّصب لكلمة (يقول) ليدل على أنَّ القول سيكون في المستقبل أو الحال، ولو حدث في الماضي لاستعمل: فيقولُ.

{رَبِّ}: ولم يقل يا رب. رب؛ لأنّ الرّب قريب من العبد فلا يحتاج إلى ياء النّداء التي تدل على البعد، أو لأنّ الوقت قصير وليس هناك متسع في الزّمن حين يحضر الموت، لذلك حذف الياء.

{لَوْلَا أَخَّرْتَنِى}: أخرتني: أشد في الطّلب والحث من لو أخرتني وجواب الطّلب: (فأصَّدّق).

{أَخَّرْتَنِى}: استعمل ياء المتكلم ولم يقل لولا أخرتن بدون ياء؛ لأنّه طلب لمصلحة العبد وهو طلب تام وصريح ليس فيه شك مقارنة بقول إبليس في سورة الإسراء آية (٦٢): {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} فطلب إبليس التأخير ليس فيه النفع لنفسه، وإنما ليضل ذرية آدم. ارجع إلى سورة الإسراء آية (٦٢) لمزيد من البيان.

{إِلَى}: حرف يمكن استعماله لكلّ الغايات.

{أَجَلٍ قَرِيبٍ}: طلب تأخير الموت فقط إلى أجل قريب، أيّ زمن أو وقت قريب قصير.

{فَأَصَّدَّقَ}: الفاء فاء السّببية، وهي جواب الطّلب (أصَّدّق) ولم يقل أتصدق، (أصَّدّق) أقلّ حروفاً من أتصدق، اختار الكلمة المناسبة لقصر الوقت الذي يرجوه طمعاً في تأخير الموت عنه.

وكلمة فأصَّدّق: فيها تضعيفان: الأول في الصّاد والآخر في الدّال؛ للمبالغة والتّكثير في الصّدقة؛ أي: ينوي أن يكثر من الصّدقة، أي الإنفاق؛ لأنّ الأجل قريب وليس هناك زمن طويل وحتّى يكون من الصّالحين.

ونصب (أصَّدّقَ) بأنّ المضمرة؛ أي: أن أصَّدّقَ.

{وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}: الواو هنا واو المعية؛ أي: أقوم بكلا الفعلين أصَّدّق وأكن من الصّالحين معاً، وأكن: أصلها: وأكون من الصّالحين حذف الواو؛ ليناسب عدم وجود متسع من الزّمن، وقدّم الصّدقة على الصّلاح: مع أنّ الصّلاح أهم من الصّدقة؛ لأنّ التّقديم هنا والتّأخير ليس مبنياً على الأفضل وإنما التّقديم والتّأخير مبني على السّياق، والسّياق في الآيات على الإنفاق والأموال فقدّم الصّدقة.