سورة الكهف [١٨: ٥٧]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}:
{وَمَنْ أَظْلَمُ}: من: استفهامية، ولم يقل: لا أحد أظلم، بل قال: ومن أظلم: استفهام يحمل معنى الإقرار؛ لكي يجيب المسؤول بنفسه بالقول: لا أحد أظلم على وزن أفعل.
أمّا لو قال: لا أحد أظلم؛ فهذا خبر فقط، ولا يحتاج إلى جواب، والإقرار: هو سيد الأدلة، ويطلق على هذا أنّ الخبر جاء بصورة استفهام تقريري لإقامة الحُجة على المسؤول.
{مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ}: آيات ربه: آيات القرآن، وتشمل أيضاً الآيات الكونية، والمعجزات… وغيرها.
{فَأَعْرَضَ عَنْهَا}: فأعرض: الفاء: تدل على المباشرة، والتّرتيب؛ تدل على أنّ التّذكير حدث حين أو بعد الجدال؛ أي: جادلوا بالباطل؛ فَذُكِّروا مباشرة بآيات ربهم؛ فأعرضوا عنها مباشرة، ولم يتعظوا بها، أو يتدبروها، أو يستفيدوا منها، وكان من المفروض من أحدهم أن يتريث زمناً قبل إعراضه مباشرة؛ لعله يتدبر ويتفكر؛ فيتوب، ويؤمن، ولكنه بالعكس نسي ما قدمت يداه.
{وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}: نسي ما فعله من الذّنوب، والمعاصي، واختار كلمة يداه بدلاً من ذاته، أو نفسه؛ لأنّ كثيراً من الذّنوب تحدث بالأيدي؛ مثل: القتل، والسّرقة، والشّرك، والظّلم.
{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}: أكنة: أغطية، وحجب؛ فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، وهذا الجعل هُمْ الّذين كانوا سبباً له؛ حيث أعرضوا، وأصموا آذانهم، وطلبوه لأنفسهم.
{أَنْ}: مخففة تفيد التّعليل؛ أي: لئلا يفقهوه، أو يفهموه؛ أي: يفهموا القرآن.
{وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا}: أي: كأنّ في آذانهم، وقراً: ثقل في السّمع، ويختلف عن الصمم؛ فلم يسمعوا جيداً؛ أي: موعظة، أو نصيحة، أو آية.
{وَإِنْ تَدْعُهُمْ}: إن: شرطية تفيد الاحتمال، أو الشّك.
{إِلَى الْهُدَى}: الإيمان، والقرآن، أو الإسلام.
{فَلَنْ يَهْتَدُوا}: فلن: الفاء: للتوكيد؛ لن: للنفي المستقبل القريب، والبعيد.
{إِذًا}: حرف جواب.
{أَبَدًا}: للتّوكيد.
لنقارن هذه الآية (٥٧) من سورة الكهف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}، مع الآية (٢٢) من سورة السّجدة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}.
نجد الاختلاف في استعمال الفاء في آية الكهف (فأعرض عنها) الّتي تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ أي: حصل الإعراض عن الآيات بعد التّذكير بآيات الله مباشرة. بينما استعمل: (ثمّ) في آية السّجدة، ثمّ أعرض عنها الّتي تدل على التّرتيب، والتّراخي في الزّمن؛ أي: حصل الإعراض عن الآيات بعد التّذكير بها بزمن، ولم يحدث مباشرة.
فالإعراض يحصل من الكفار؛ فمنهم من يعرض مباشرة بعد التّذكير، ومنهم من يعرض بعد مرور فترة من الزّمن قد تطول، أو تقصر.