سورة آل عمران [٣: ٧]
{هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}:
{هُوَ}: ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد.
{الَّذِى}: اسم موصول يفيد التعظيم.
{أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}: ارجع إلى الآية (٣).
{مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}: آيات الفرائض، والحدود، وآيات الأحكام كلها، والأسرة، والطلاق، والزواج، والعبادات، وآيات الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.
{آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ}: واضحة المعنى، ظاهرة الدلالة، لا تحتمل التأويل والاشتباه، ولا يختلف فيها الناس، ولا تتغير ولا تتبدل، ولا تحتمل إلا معنى واحداً، وهي عماد الدِّين، أو أصول علم الفقه، ارجع إلى سورة هود، آية (١)؛ لمزيد من البيان.
أمثلة على الآيات المحكمة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ومعنى هذه الآيات واضح وجلي.
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}: أم الكتاب؛ أي: الأصل؛ لأن أم كل شيء أصله.
ومما ذكر، أو كتب في أم الكتاب لا يتغير، ولا يتحول، ولا يقع فيه محو، أو تغير.
وأما ما ذكر في اللوح المحفوظ يمكن أن يتغير، ويتبدل؛ لقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}: لها معانٍ كثيرة متشابهة، أو متعددة، خفية وظاهرة.
مثل أمور الغيب، وفواتح السور: وهي آيات الاعتقاد، والقدر.
وتتعلق بصفات الله تعالى.
نسلم بها كما جاءت، وغير مسؤولين عن تأويلها.
وأفضل ما نقول فيها ما قاله الله تعالى ونسكت.
أمثلة: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.
والقرآن وصف كله بالتشابه، ووصف كله بالإحكام، فقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: ١]، {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ} [الزمر: ٢٣].
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}:
{فَأَمَّا}: الفاء: استئنافية، أما: حرف شرط وتفصيل.
{الَّذِينَ}: اسم موصول.
{فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}: الزيغ: هو الميل عن الحق، بسبب الأهواء، والشهوة، أو الشبهة، أو الفتنة، والزيغ: مشتقة من تزايغ الأسنان؛ أي: اختلاف منابتها، فتظهر خارجه، أو داخله.
في قلوبهم مرض الزيغ.
والزيغ: مرض يطرأ على القلوب التي تخلق لا زيغ فيها؛ لأنها تخلق على الفطرة السليمة، وما يجعلها تزيغ هي الأهواء، والشهوات.
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}: يتخذون الآيات المتشابهات وسيلة للطعن، أو يعطلون صفات الله، أو يحرفونها؛ ليخدموا شهواتهم، وأهواءهم.
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}: أي: يتبعون الزيغ طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم، ومعتقداتهم، وليضلوا عقول الذين يضلونهم، وإثارة للشبهة، والتناقض، وتشكيك المؤمنين بدينهم، والتلبيس عليهم.
والفتنة: هي أشد الابتلاء، والاختبار، وتكون في الخير والشر، وأصلها مشتق من فتنة (عرض) الذهب على النار ليميز الجيد من الرديء، ولها معانٍ كثيرة، ومختلفة؛ منها: الكفر، والشرك، والأذية (أذى الناس)، والقتل، والأسر، والضلالة، والزيغ، والعدول عن الحق والصراط، وتعني: الحجة، والمعذرة، والتعذيب في النار، أو غيره، والوقوع في المعاصي، والنفاق، والعذاب، والصد عن سبيل الله، وغيرها.
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}: طلباً للتأويل، وهو التحريف؛ ليوافق معتقداتهم الفاسدة، كما في تأويلهم خاتم النبيين: يقولون: إنه الخاتم الحقيقي الذي في الإصبع، وليس هو آخر النبيين، فهناك أنبياء سيأتون من بعده.
والتأويل: هو نقل ظاهر اللفظ إلى دلالة أخرى، أو معنى آخر، ولا يجوز التأول كيف نشاء وله شروطه.
أما التفسير: فهو كشف المراد من اللفظ، أو المعنى، أو الآية.
{وَمَا}: الواو: حالية؛ تفيد التوكيد، ما: نافية؛ لنفي الاستمرار، نفي مستمر.
{يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}: أداة حصر؛ أي: الله وحده سبحانه هو الذي يعلم تأويل المتشابه.
{وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ}: جمع راسخ، ورسوخ الشيء في الشيء ثبوته؛ أي: أتقنوا علمهم بلا شك ولا لبس، والقادرون على تأويله يعلمون المحكم والمتشابه، ويعلمون الشيء بدلائل كثيرة، ويعرفون أصل الشيء، ومن المفسرين من يقف على قوله إلا الله: ويفسرون المتشابه لا يعلمه إلا الله وحده ويبتدئ والراسخون في العلم يقولون، ومن المفسرين مَنْ عطف الراسخين في العلم على الله تعالى؛ أي: الله سبحانه، والراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ونتيجة علمهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (نؤمن به جميعاً).
وفي كلا الحالتين: إن علموا تأويله وحكمته، قالوا: آمنا به كلٌّ من عند ربنا (نؤمن بالمحكم والمتشابه جميعاً)، وإن لم يعلموا تأويله، وحكمته قالوا: آمنا به كلٌّ من عند ربنا، النهاية نفسها.
وهناك من المفسرين من قال: إن من المتشابه في القرآن ما هو حقيقي، لا يعلمه إلا الله سبحانه؛ كقوله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا، ومن المتشابه ما هو نسبي، والراسخون في العلم قادرون على تأويله، وإرجاعه إلى ما جاء في المحكم.
وقيل: الراسخ: هو الثابت المتمكن في العلم.
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}؛ (أي: المحكم والمتشابه)، {كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا}: المحكم من عنده، والمتشابه من عنده، لا يتناقض كلامه، ولا يختلف كتابه.
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}: ما: النافية، يذكر: أصلها يتذكر؛ أي: لا يغفل، ولا ينسى ذلك، أولو العقول النيرة الذين أسلموا وجوههم لله.
أولو التفكير، والتدبير، والحكمة، أو الصفوة من المؤمنين.
واللب: منطقة التفكير، والتدبر في العقل (وسموها قديماً باطن العقل).
وجاء تعريفهم في القرآن في سورة الزمر، آية (١٨): {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} (القرآن والسنة) {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (المحسنين) {الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ}. ارجع إلى الآية (١٧٩)، والآية (١٩٧) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.