سورة المائدة [٥: ٤١]
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}:
{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}: الياء: ياء النداء، والهاء: للتنبيه.
وحينما ينادي -جل وعلا- أشرف أنبيائه ورسله؛ فهو تبارك وتعالى يناديهم بأسمائهم.
فيقول: {يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا}، {يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ}، {يَامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ}، {يَاعِيسَى}.
ولكن حين ينادي رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، لا يناديه باسمه أبداً، بل يناديه: {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ}، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}: تعظيماً، وتكريماً له؛ إلا في حالات أربعة خاصَّة؛ فقد استعمل اسمه (محمد)؛ كقوله: {مُّحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: ٢٩]، {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِّجَالِكُمْ} [الأحزاب: ٤٠]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} [آل عمران: ١٤٤]، {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [محمد: ٢]، وورد اسم أحمد مرةً واحدةً في القرآن {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: ٦].
أمّا متى يستعمل: يا أيها الرسول، أو يا أيها النبي؟
في سياق التبليغ والدعوة: يستعمل يا أيها الرسول، وفي سياق الأحكام، وافعل، ولا تفعل: يستعمل يا أيها النبي.
وقد وردت يا أيها النبي (١٣) مرَّة، وأمَّا يا أيها الرسول؛ فمرَّتين فقط، وكلاهما في سورة المائدة، الآية (٤١)، والآية (٦٧).
وكلمة النبي أعمَّ من كلمة الرسول.
{لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ}: لا: الناهية.
{يَحْزُنكَ}: الحزن: هو غمّ، يصيب النفس لرؤية، أو سماع ما يسوء إليها، وتكرهه، ولِمَ لا يحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد جاء -عليه السلام- مبلغاً للرسالة، حريصاً على إيمان كل فرد، فهذا الحرص كان يدفع قلبه للشعور بذلك، وخاصَّة لما بُعث رحمة للعالمين، وهناك فرق بين الحُزن، والحَزن. ارجع إلى الآية (١٣٩) من سورة آل عمران؛ للبيان.
انتبه إلى قوله: {يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ}: الإسراع: هو الجري أو العدو في الكفر، ولم يقل: يسارعون إلى الكفر، بل قال تعالى: {يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ} هم من المنافقين ومن الذين هادوا.
وقوله (في الكفر): تدل على أنّهم كانوا في الكفر، (كانوا منذ البداية، ويريدون أن ينتقلوا إلى كفر أعمق أو أشد)، أو في ازدياد. والمسارعة في الكفر تعني أيضاً: إظهار كفرهم عند أي أدنى مناسبة.
وأما (إلى)؛ فإنها تدل على أنهم كانوا خارج دائرة الكفر، والآن يريدون أن يكفروا، ويصبحوا كفاراً. ويسارعون فيها معنى شدة الحرص على المسارعة، وكثرتها، وتكرارها، وبذل قصارى جهدهم بدلاً من القول يسرعون.
{مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ}:
هذا التعريف ينطبق تماماً على المنافقين. ارجع إلى سورة النساء، آية (١٣٨)؛ لمزيد من البيان.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا}: أيْ: دخلوا في اليهودية، ولم يقل: من بني إسرائيل؛ لأن هؤلاء جاؤوا بعد بني إسرائيل، وهم طبقة أقل صلاحاً، وإيماناً من بني إسرائيل.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ}: أيْ: لما وقع في التوراة من تحريف وتبديل، أو الكذب الذي يقولونه بأفواههم بشأن الرسول والمؤمنين.
قال: {سَمَّاعُونَ}: وليس (سامعون)؛ لأن {سَمَّاعُونَ}: فيها مبالغة، وتدل على احترافهم المهنة لمدة طويلة، فهم أهل خبرة، وحرفة في الاستماع إلى الكذب، وليسوا طلاباً (سامعين)، فآذانهم اعتادت السماع للكذب، وأصبح ذلك من صفاتهم الثابتة، سماعون للكذب من رؤسائهم، وكذلك سماعون لقوم آخرين.
{لَمْ يَأْتُوكَ}: لا يأتون إلى مجالسك؛ تكبراً، حتى لا يضعف مركزهم أمام أتباعهم، إذن هؤلاء هم المتكبرون من الرؤساء وغيرهم.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}: الكلم: هو جمع كلمة؛ أيْ: كلام الله؛ أي: التوراة؛ ارجع إلى سورة النساء آية (٤٦) لمزيد من البيان في معنى الكلم؛ أيْ: يحرفون التوراة مرة ثانية، أو أخرى في زمن الرسول،
وأما المرة الأولى: فقد كانت بعد موت موسى -عليه السلام- ، وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: ١٣].
فهناك فرق بين قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، وقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}.
والتحريف: يعني: تغيير المعنى، وتحميل الألفاظ غيرَ ما وُضعت له، مثل قولهم: {رَاعِنَا}، {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}. ارجع إلى الآية (١٣) من سورة المائدة، وسورة النساء، آية (٤٦)؛ لمعرفة الفرق بين الآيتين.
{يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا}: إن شرطية؛ تفيد الاحتمال، أو الندرة.
يقولون: إن طابق ما حرَّفناه على ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فخذوه؛ أي: اقبلوه، وإن لم يطابق ما حرفناه على ما جاءكم به محمد؛ أيْ: جاءكم بغيره؛ أي: احذروا قبوله، والسماع إليه، وتطبيقه.
{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْـئًا}:
{وَمَنْ}: الواو: استئنافية، من: شرطية.
{يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ}: أيْ: إضلاله، أو اختباره، وابتلاءَه بالتعذيب بالنار، أو عدم هدايته؛ لأنه اقترف الذنوب، والآثام، والكبائر، والله سبحانه لا يُضل أحداً، وأما إذا أراد أحدٌ أن يضل بنفسه وغيره عن منهج الله سبحانه، ويبتعد كثيراً؛ فلن تستطيع مساعدته.
{فَلَنْ}: الفاء: للتوكيد، لن: لنفي المستقبل القريب والبعيد.
{تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ}: لن تستطيع تغيير ذلك، ولا يحزنك مسارعته في الكفر، فمحاولة هدايته، أو منعه من العذاب مستحيلة، ولا تفيد أبداً.
{لَهُ}: تفيد الحصر، من: استغراقية، شيئاً: نكرة: هو أقل القليل؛ أيُّ شيء مهما كان من الهداية، أو النصح.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}:
{أُولَئِكَ}: اسم إشارة، واللام: للبعد؛ غرضه التحقير.
{الَّذِينَ}: اسم موصول؛ يفيد التوكيد على عدم طهارة قلوبهم من المنافقين واليهود.
{لَمْ يُرِدِ اللَّهُ}: لم: حرف نفي وجزم، لم يشأ الله سبحانه، والإرادة تكون بعد المشيئة، ولا تتغير، وتعني: العزم على القيام بالفعل.
{يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}: من دنس الكفر، والشرك، والنفاق، والحسد، بطهارة الإيمان والإسلام.
{لَهُمْ}: اللام: لام الاستحقاق والاختصاص.
{فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ}: الخزي: هو الذل مع الافتضاح، وقيل: هو الشيء القبيح الذي تكره أن يراك الناس عليه، ويشمل الهزيمة، والخسارة، والقتل، والجلاء، والسبي.
{وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: يجمع كل أنواع العذاب (الألم، والمهين، والمقيم، والثابت)، وهو أشد أنواع العذاب على الإطلاق.
وتكرار {وَلَهُمْ}: مرتين؛ يدلُّ على التوكيد، وفعل كل منهما على حدة، أو معاً.