سورة يونس [١٠: ٢]
{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}:
أسباب النزول: كما ذكر الواحدي والطبري عن ابن عباس قال: لما بعث الله تعالى محمّداً -صلى الله عليه وسلم- رسولاً أنكرت الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمّد؟ فأنزل الله هذه الآية.
كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: ٩٤].
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: ٤١].
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ} [ق: ٢].
{أَكَانَ}: الهمزة: همزة استفهام إنكاري، وتعجب.
{لِلنَّاسِ}: اللام: لام الاختصاص، والنّاس في هذه الآية: أهل مكة، وكلمة النّاس: مشتقة من النوس. ارجع إلى سورة البقرة، آية (٢١).
{عَجَبًا}: موضع العجب أو التعجب كونه رجل أولاً، ومنهم ثانياً؛ أيْ: من قريش العرب ومن الأميين.
{أَنْ}: المفسرة المخففة (للتوكيد).
{أَوْحَيْنَا}: الوحي لغة: هو الإعلام بالخفاء. وشرعاً: هو ما يلقي الله سبحانه على رسله من تكاليف، وتعاليم، وآيات… وغيرها.
ويكون بأن يكلم الله أحد رسله وحياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. ارجع إلى سورة النساء، آية (١٦٣)؛ لمزيد من البيان.
{إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ}: إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. منهم: من قريش يعرفونه.
{أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}: أن: للتوكيد. أنذر النّاس: أنذر من الإنذار: وهو الإعلام مع التحذير، أو التّخويف، أو الزّجر، والإنذار: يكون بعدم فعل شيء ما، أو تركه، أو الحثِّ على ألا يُقدِمَ على ما يضره.
{النَّاسَ}: تشمل: الإنس، والجن.
الإنذار إذن لكلّ النّاس بما فيهم المؤمن والكافر. ارجع إلى الآية (٢١) من سورة البقرة.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا}: البشارة تكون فقط لمن آمن. الّذين آمنوا، ولا تكون إلا بالخير عادة (البشارة المطلقة)، أما البشارة المقيدة: فقد تكون بالشّر؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تكون على سبيل التهكم، والسّخرية. ارجع إلى الآية (١١٩) من سورة البقرة؛ للبيان.
{أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ}: أنّ: للتوكيد (حرف مشبه بالفعل). لهم: اللام: لام الاختصاص. لهم: خاصَّة، قدم صدق: سابقة خير؛ أيْ: ما قدَّموه من الأعمال الصّالحة في دنياهم قد وصل. قدَم: هو العضو المعروف الّذي نمشي عليه، وهو وسيلة للسعي، والسّبق؛ لأنّ السّعي والسّبق إلى الأعمال الصالحة غالباً ما يكون بالقدم؛ فعبر عن الإيمان، والاستماع، واتِّباع المنهج الرّباني بالقدم على سبيل المجاز، أو أنّهم قد قدَّموا أعمالاً صالحة في دنياهم فجزاء ذلك أن يكون لهم مقعد صدق عند ربهم.
{قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: وعندما أبلغهم الرّسول -صلى الله عليه وسلم- الإنذار، أو أنذرهم باتباع منهج الله تعالى، قال الكافرون: {إِنَّ}: للتوكيد.
{هَذَا}: الهاء: للتنبيه؛ ذا: اسم إشارة؛ يشير إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
{لَسَاحِرٌ مُبِينٌ}: أي: اتهم الكافرون الرّسول -صلى الله عليه وسلم- بكونه: ساحراً مبيناً: اللام في كلمة لساحر: تفيد التوكيد. مبين: واضح، وبيِّن لكل من يعرفه: أنّه ساحر، وما جاء به السِّحر الواضح الّذي لا يحتاج إلى برهان، أو دليل، وفي آيات أخرى: اتَّهموا القرآن بأنّه سحر؛ كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: ٤٣].
والسّاحر: هو الّذي يقوم بأعمال توهم أنها حقيقة، وهي حيل، وتخيلات، ولو كان ساحراً كما زعموا لماذا لم يسحرهم حتّى يؤمنوا، وينتهي الأمر، واتَّهموه بالسّاحر، أو ما جاء به السحر حين رأوا من تأثيره القوي في النفوس، والقلوب، وكونه خارقاً للعادات، وظنوا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يقوم به، أو جاء به هو نوع من الحيل والشعوذة، أو كيف يُوحَى إليه. ارجع إلى سورة طه، آية (٥٨)، وسورة البقرة، آية (١٠٢).
كلمة صدق جاءت في القرآن في عدَّة آيات منها:
ـ قدم: {قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: ٢]؛ أيْ: سابقة فضل، ومنزلة رفيعة.
ـ لسان {لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: ٨٤]؛ أيْ: ثناءً حسناً، وذكراً جميلاً.
ـ مخرج ومدخل: {أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: ٨٠]؛ أيْ: أدخلني مُدخلاً مرضياً، وأخرجني مخرجاً مرضياً.
ـ مقعد: {مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: ٥٥]؛ أيْ: مكاناً مرضياً في الآخرة.
ـ {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: ٩٣]؛ أيْ: منزلاً مباركاً في الدّنيا.
والمدخل، والمخرج، والمقعد، والمبوأ: كل ذلك جزاء لمن استجاب لربه، وعمل صالحاً.