للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة لقمان [٣١: ٣٢]

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}:

في الآية السّابقة بيّن الله سبحانه أن الفلك تجري في البحر بنعمته، وإذا غشي هؤلاء الّذين أشركوا موج كالظلل، دعوا الله مخلصين له الدين وأقروا بوجود الخالق ووحدانيته؛ كي ينقذهم وبعد أن ينجيهم يعودون لما كانوا عليه من قبل.

{وَإِذَا}: الواو استئنافية، إذا: ظرفية شرطية تدل على حتمية حدوث ما يذكر بعدها.

{غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ}: الغشي: علاهم وغطاهم موج كالظلل، الكاف للتشبيه، الظلل: جمع ظلّة؛ وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، موج ارتفاعه متران أو ثلاثة (أي جاءهم الموج من كل مكان) {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: ٢٢]. وأيقنوا بالهلاك ولا أحد يأتي لإنقاذهم.

{دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}: دعوا الله رغم كفرهم وشركهم، دعوا الله: دعاء من الفطرة التي فطر النّاس عليها.

مخلصين: جمع مخلص؛ أي: مطيعين تائبين منيبين، وقدّم كلمة (له) على الدين التي تدل على الوحدانية له وحده.

دعاء المضطر؛ أي: دعوا الله في حالة الشدة والكرب حيث تذكروا الخالق وهو سبحانه يجيبهم وينجيهم.

{فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}: الفاء للترتيب والمباشرة، نجاهم: أنقذهم وأخرجهم من كربهم وهلاكهم، وهو سبحانه يعلم منذ الأزل أنهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من الشّرك ويجحدون ومع ذلك تركهم ينجون؛ ليقيم عليهم الحجة يوم القيامة، وأنه أرحم الراحمين.

نجاهم: أي تركهم لفترة من الزّمن يلاقون العذاب أو الخوف، ولم يقل أنجاهم التي تعني بسرعة وزمن قصير، نجاهم: تعني ببطء لعلهم يتذكرون ذلك فيما بعد، فما حدث: أنه ارتدع وتاب قسم منهم والقسم الآخر عادوا إلى الكفر والشرك وخانوا عهدهم.

{فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ}: له عدَّة معانٍ:

موفٍ بما عاهد الله عليه في البحر عند الغرق من الإيمان بالله والإخلاص وعدم الشرك.

متوسط بين الكفر والإيمان، إذا تعرّض لكرب تاب ورجع، وإذا لم يتعرّض ضعف إيمانه.

وقيل: المقتصد من يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

أو يؤدي فقط الفرائض ولا يزيد عليها.

{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}: ما: النافية؛ يجحد: الجحد: هو إنكار الشيء المشاهد أو الظاهر، والختّار الكفور، الختّار: غدّار؛ أي: خائن العهد الّذي قطعه على نفسه عندما أصابه الكرب، كفور: صيغة مبالغة من الكفر؛ أي: كثير الكفر، وما: الواو استئنافية، ما: النّافية. يجحد بآياتنا: الجحود يكون للآيات الظاهرة أو الشيء الظاهر، وهو إنكار متعمد لما رآه وشاهده يوم أصابه الكرب من الآيات الدالة على عظمة الله ورحمته وربوبيته وتوحيده، والإنكار يكون للظاهر والباطن؛ أي: يعلم ويرى هذه الآيات حقاً ويجحد بها. إلا: أداة حصر.

{كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} ختّار: صيغة مبالغة من الفعل ختر؛ أي: غدار وخداع، أو خائن للعهد الّذي قطعه على نفسه وكثير الكفر.

لنقارن هذه الآية (٣٢) من سورة لقمان وهي قوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} مع الآية (٦٥) من سورة العنكبوت وهي قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.

في آية لقمان الخطر والتهديد أو الكرب أشد وأكبر مما أصاب المشركين في آية العنكبوت.

ولذلك في آية لقمان ارتدع قسم وأصبح مقتصداً، وقسم استمر على ما كان عليه في السابق من الشّرك والكفر.

وفي آية العنكبوت لأن الخطر والكرب كان أقل، فالكل عاد مشركاً بعد الكرب.

وإذا قارنّا آية لقمان (٣٢): {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} والآية (٤٢) من سورة هود: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ}.

الموج في آية لقمان هو موج غرق وهلاك وعذاب، وركاب الفلك هم من عامة النّاس منهم المؤمن أو الكافر والموج يغشاهم كالظُّلل.

الموج في آية هود هو موج إنقاذ ورحمة ونجاة، وركاب الفلك هم نوح والذين آمنوا معه، الموج يجري بهم من تحتهم.