سورة المائدة [٥: ٦٤]
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}:
أسباب النزول: روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- : أن هذه الآية بعد أن بسط الله -عز وجل- على اليهود؛ حتى كانوا أكثر الناس أموالاً، فلمّا عصوا الله -جل وعلا- ، ومحمداً -صلى الله عليه وسلم-، وكذبوا به؛ كفّ عنهم ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنخاص (رأس يهود بني قينقاع): {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: يعني: محبوسة، مقبوضة عن الرزق، وعندما لم ينهه بقية اليهود، وينكروا عليه ما قاله، وروضوا بقوله؛ أشركهم الله سبحانه في هذه المقالة، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ}: بدلاً من القول، وقال: قائل منهم.
{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: حينما كفّ الله عنهم ما بسط لهم من الرزق؛ عقوبة على عصيانهم، قالوا ذلك على الله: بأن يد الله بخيلة العطاء، مغلولة؛ كأنما وضعت فيها الأغلال، كناية عن البخل، كما يعني: بسط اليد بالكرم، وحاشا الله تعالى أن يكون كذلك.
{مَغْلُولَةٌ}: معنى الغُل: وهو ما يُقيد به الأعضاء والأطراف، وجمعهُ: أغلال، وهم الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: ١٨١].
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: دعاء عليهم بالبخل، وقيل: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}: في جهنم، أو أمسكت عن الإنفاق في الخير.
{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}: طردوا، وأبعدوا من رحمة الله.
{بِمَا}: الباء: السببية، أو البدلية؛ بسبب، أو عوض ما قالوا في ذات الله تعالى.
{بِمَا}: اسم موصول؛ أي: الذي قالوه.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}: بل: للإضراب الإبطالي، بل ما نسبوه كذباً على الله -جل وعلا- .
{مَبْسُوطَتَانِ}: كناية عن أنه -عز وجل- كريم جواد، كثير العطاء.
هم قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، فردّ الله عليهم: بل يداه الاثنتان مبسوطتان، تعطيان؛ كناية عن جوده وكرمه -جل وعلا- .
{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}: بالعطاء، أو المنع، فالمنع هو عين الإنفاق، وهذا يسمَّى عطاءَ السلب، فيمنع عنه؛ لكي لا يرتكب الفواحش؛ مثلاً، أو يصبح من المسرفين المبذرين، إخوان الشياطين، وقد برر منعه بقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: ٢٧] إن شاء وسع، وإن شاء أمسك.
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}:
{وَلَيَزِيدَنَّ}: الواو: استئنافية. اللام: للتوكيد، والنون: كذلك لزيادة التوكيد.
{كَثِيرًا مِّنْهُم}: أي: اليهود والنصارى.
{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}: ما أنزل إليك من القرآن الكريم وآياته، التي تبيِّن خبثهم، وتفضح أفعالهم القبيحة؛ من أكلهم السحت، وارتكابهم الإثم والعدوان.
{طُغْيَانًا}: الطغيان: هو المبالغة، وتجاوز الحدّ في الغلو، والكفر، والحسد.
{وَكُفْرًا}: يزداد كفرهم؛ أيْ: عدم تصديقهم لك ولأمتك.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}:
{وَأَلْقَيْنَا}: من ألقى، والإلقاء: هو طرح الشيء؛ حيث تجده؛ أيْ: تراه.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ}: بين طوائف اليهود، بعضها ببعض، أو طوائف النصارى بعضها ببعض، أو بين طوائف اليهود والنصارى معاً العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. ارجع إلى الآية (١٤) من نفس السورة لمعرفة الفرق بين ألقينا وأغرينا.
{الْعَدَاوَةَ}: كراهية تصدر عن صاحبها، والكراهية: أذى محسوس يتجلى بالجفاء، والقطيعة، والضرر، والعداوة: مشتقة من العدو، وهو التجاوز والتباعد.
{وَالْبَغْضَاءَ}: شدة الكراهية، وتكون مضمرة في الصدر غالباً، وقد تظهر على الوجه، والبغض: ضد الحب؛ أيْ: نفور النفس عن شيء لا ترغب فيه، والعداوة والبغضاء غالباً نراهما مترادفتين الواحدة بعد الأخرى؛ لأن إحداهما تؤدِّي إلى الأخرى.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}: كلما: أداة شرط تفيد التكرار، إيقاد النار: كناية عن إرادة الحرب، فقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال؛ جعلوا علامتهم إيقاد النار على جبل أو ربوة، يسمّونها: نار الحرب، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم؛ أيْ: كلما أرادوا شراً بالمؤمنين؛ صرفه الله عنهم، من دون حرب، أو بحرب يَغْلبون فيها.
{وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}:
{وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ}: من السعي، والمضي، والجري، أو العمل يسعى؛ أيْ: يعمل بجد ونشاط.
{فَسَادًا}: الفساد: يشمل الكفر، والظلم، والمعاصي، وإهلاك الحرث والنسل؛ بالقتل، والإحراق، والإفساد، وتدمير البناء، وقطع الأشجار.
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}: في الأرض الذين يقومون بأعمال الفساد، وأصبحت صفة الفساد عندهم ثابتة، ولا يتوبون إلى الله، ويستغفرونه، وإنما يستمرون في فسادهم. ارجع إلى الآية (٢٥١) من سورة البقرة؛ لمزيد من البيان.