سورة البقرة [٢: ٢٥٣]
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}:
قال تعالى في الآية السابقة: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، ثم أتبعها بقوله:
{تِلْكَ الرُّسُلُ}: تلك: اسم إشارة للبعد.
إشارة إلى الرسل الّذين بعثهم الله سبحانه إلى النّاس كافة.
الرسل تشمل كل من اختير وكلف، وأرسل من قبل الله سبحانه؛ لحمل رسالة معينة، وتبليغها، ومتابعتها.
فكلمة الرسل: قد تعني كل الأنبياء، وكل رسول، فالكل مرسل من قبل الله تعالى.
وقد تعني: الرسل وعددهم (٣١٥) رسولاً، وقيل في عدد الأنبياء: مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، كما روى الإمام أحمد في مسنده حين سأل أبو ذر -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عدد الأنبياء، قال -صلى الله عليه وسلم-: مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمئة وخمسة عشر».
وأفضل ما قيل في تعريف الرسول: من أُوحي إليه بشرع جديد، وأمر بتبليغه.
والنبيُّ: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله وتبليغه. ارجع إلى سورة النساء آية (١٦٤) لمزيد من البيان.
وذكر الله سبحانه في كتابه (٢٥) نبياً ورسولاً، من هؤلاء أربعة من العرب هم: هود -عليه السلام- ، وصالح -عليه السلام- ، وشعيب -عليه السلام- ، ومحمد -صلى الله عليه وسلم-.
{فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}: الفضل لغة: الزيادة في الأجر، واصطلاحاً: الزيادة في الدرجات في الجنة، وكذلك القرب من الله تعالى في المنزلة كما قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: ١٦٣]، {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: ٤]، ونا الجمع تدل على التشريف، وأفضل الرسل والأنبياء هم خمسة: محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وإبراهيم -عليه السلام- ، وموسى -عليه السلام- ، وعيسى -عليه السلام- ، ونوح -عليه السلام- ، وهم أولوا العزم من الرسل، وأجمعت الأمة على أنّ الرسل أفضل من الأنبياء.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}: في المنزلة، والفضل بالقرب من الله -سبحانه وتعالى- ، ودرجاتٍ في الجنة: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}، {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}.
فالرّسول محمّد -صلى الله عليه وسلم-: هو خاتم النّبيين، وأرسل كافة للناس بشيراً ونذيراً.
وأمثال إبراهيم -عليه السلام- : كان أمة، واتخذه الله خليلاً.
وأمثال عيسى -عليه السلام- : آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس، ارجع إلى الآية (٨٧) للبيان.
{وَأَيَّدْنَاهُ}: أي: قوَّيناه بروح القدس جبريل -عليه السلام- ، فكان في صحبة لا يفارقه في كل أمر من أمور الدِّين.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ}:
{اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم}: من بعد الرسل، والّذين اقتتلوا هم الأمم الّتي جاءت من بعد الرسل.
فاليهود اختلفوا في دينهم، وتفرقوا شيعاً، والنصارى اختلفوا وانقسموا شيعاً، وكذلك أمة محمّد -صلى الله عليه وسلم- صاروا شيعاً.
{مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}: أي: المعجزات، والدلائل على صدق نبوة الرسل: محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وعيسى -عليه السلام- ، وموسى -عليه السلام- ، وغيرهم، وأنهم رسل الله، ويجب الإيمان بهم جميعاً.
وهناك فرق بين جاءتهم البينات (تاء التأنيث)، وجاءهم (بالتذكير). البينات، والتذكير: فيه معنى القوة، ويستعمل جاءهم البينات: في سياق الأوامر، والأحكام، والآيات، ويستعمل جاءتهم البينات: في سياق الأدلة، والمعجزات الدالة على صدق نبوة الرسل؛ أي: الأقل شأناً.
إذن: البينات يمكن أن تذكر، أو تؤنث، وانتبه إلى ذلك في الحفظ.
{اخْتَلَفُوا}: في المذاهب، والعقائد، والآيات، والأحكام، والتحريف، والتبديل، والنسيان، واختلفوا بسبب الأهواء، والحسد، وحب السيطرة، وحب الدّنيا.
{فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ}: بالرسل وبما أنزل الله، {وَمِنْهُم مَنْ كَفَرَ}: وتكرار منهم: يفيد التّوكيد، كفروا بالله ورسله وفرقوا بين الله ورسله، وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}: لو: شرطية؛ أي: الّذين آمنوا، والّذين كفروا، ولكن اقتتلوا؛ لكي لا يحدث فسادٌ في الأرض، وليحق الحق، ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}: تكرار (ولو شاء الله ما اقتتلوا): يفيد زيادة التّوكيد على أهمية القتال، والجهاد في سبيل الله، وعلى مشيئة الله تعالى، فلو شاء لما حدث الخلاف، ولو شاء لما حدث القتال، ولكن ليمحص الله المؤمنين ويمحق الكافرين.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ}: للاستدراك، والتوكيد، {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}: ولم يقل: يفعل ما يشاء، فما هو الفرق؟
المشيئة: تكون أولاً، ثم الإرادة ثانياً، فالمشيئة تسبق الإرادة.
فالمشيئة: هي ابتداء العزم على الفعل، والإرادة هي العزم على الفعل، أو ترك الفعل.
فقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}؛ أي: إذا صدر الحكم منه بكن فيكون.