سورة الروم [٣٠: ١٩]
{يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}:
مناسبة ذكر الحي من الميت والميت من الحي بعد قوله: (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)؛ لأن: تمسون من: المساء؛ أي: الليل والسكون والهمود، وبالتالي النوم الّذي يمثل صورة من صور الوفاة كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} [الزمر: ٤٢].
وتصبحون يمثل النهار والبعث والحياة والنشور؛ أي: النوم يمثل الموت والاستيقاظ يمثل البعث.
يقول: {يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ} ويخرج الميت من الحي: ارجع إلى سورة آل عمران آية (٢٧) للبيان.
وقوله: يخرج: تدل على التجدد والتكرار، وهذا ما نراه في كل يوم، وفي آية (٩٥) من سورة الأنعام قال تعالى: {وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ} جاء باسم الفاعل؛ ليدل على الثبوت، ثبوت صفة الإخراج. ولمزيد من البيان عن هذه الآية ارجع إلى سورة الأنعام آية (٩٥).
{وَيُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}: وموت الأرض ذُكر في سورة يس آية (٣٣) {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
وموت الأرض يعني: كونها هامدة وخاشعة، كما ذكر ذلك في سورة الحج آية (٥): {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
وفي سورة فصلت آية (٣٩): {أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ} وإحياء الأرض يكون بالماء كما قال تعالى {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ} [الآنبياء: ٣٠].
{وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}: هذا الإخراج بيّنته أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
فقد جاءت الأحاديث مخبرة بأنه يسبق نفخة البعث (النفخة الثانية) نزولُ ماء من السّماء فتنبت به أجساد العباد، كما ورد في (صحيح مسلم) ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطراً كأنه الطَّلّ فتنبت منه أجساد النّاس.
وهذا الإنبات: إنبات الأجساد يكون من وصول هذا الماء الطَّلّ إلى القبور وإلى بقايا عظم عجب الذنب، وهو يسمى في علم التشريح: عظم العجز فالماء يؤدي إلى تكاثر الخلايا التي بقيت حية وقادرة على التكاثر، وهي من الخلايا الجذعية المسماة: كاملة القدرات، القادرة على تكوين الجنين، وهكذا ينمو ويعود الإنسان كما ينبت النبات بعد نزول الماء من السّماء ومن بذرة صغيرة تكون في الأرض ساكنة حتى يصلها الماء فتتحرك بالحياة، وهذه البذرة موجودة في عجب الذنب.
ففي (صحيح البخاري ومسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما بين النفختين أربعون، ثم ينزل من السّماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، وليس في الإنسان شيء إلا بلي، إلا عظم واحد، وهو عجب الذنب، منه يُركَّب الخلق يوم القيامة).
وقد وردت أحاديث مشابهة بروايات أخرى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كل آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلق وفيه يُركَّب) أخرجه البخاري وأحمد في المسند، ومالك في الموطأ. وفي رواية أخرى لأبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يُركَّب يوم القيامة، قالوا: أي عظم يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب) رواه البخاري والنسائي وابن ماجه وأحمد.
وهذان الحديثان يشيران إلى أن في عجب الذنب خلايا تبقى حية وقادرة على التكاثر، ومن نوع الخلايا الجذعية المسماة: كاملة القدرات، القادرة كل منها على تكوين الجنين لوحدها، وهذه معجزة علمية خالدة تشهد بأن رسول الله عليه الصّلاة والسلام حقٌّ، وعجب الذنب يسمى في علم التشريح: عظم العجز، وقد تبين من الدراسات الجنينية أن هذا العظم يتشكل مما يسمى: الشريط الأول، وهو جزء محوري يظهر في أوائل الأسبوع الثالث ويضمر في نهاية الأسبوع الرابع، ويحوي على خلايا جذعية من مختلف الأنواع، والاستنساخ يعتمد على نظرية أن الإنسان يمكن تكوينه من خلية واحدة تحوي (٤٦) كروموسوماً، وبذلك يمكن تفسير أن البعث يوم القيامة أهون من الخلق الأولي، وهذا ما يذكره العلماء، والله أعلم.
وقد وردت الآيات الكثيرة في القرآن الكريم في تشبيه البعث والنشور بإحياء الأرض بعد موتها بعد نزول الغيث.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: ٥٦] {وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر: ٩].