للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة آل عمران [٣: ١١٩]

{هَاأَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}:

تستمر الآيات في التحذير من اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وتبين الأسباب الداعية إلى عدم اتخاذ البطانة، فيقول تعالى:

{هَاأَنتُمْ}: الهاء: للتنبيه، والتحذير لعباده المؤمنين، أنتم: ضمير منفصل يفيد التوكيد.

{أُولَاءِ}: اسم إشارة للقرب حذف الهاء من أولاء وأصلها هؤلاء؛ لأن الموقف لا يحتاج إلى الوعظ وإلى التنبيه مرة أخرى، واكتفى بهاء التنبيه في كلمة ها أنتم.

{تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}: لأنهم أقرباء لكم، وبالنسب، والصداقة، والخلة، أو تحبونهم طمعاً في إسلامهم، أو رحمة بهم، وهم لا يحبونكم. لا: النافية.

وانتبه إلى قوله: تحبونهم، ولا يحبونكم، ولم يقل تحبوهم ولا يحبوكم، بل زاد نون التوكيد على حبكم الشديد لهم، وهم لا يبادلونكم أي حب، (وزاد نون التوكيد على عدم حبهم لكم).

وإذا قارنا قوله تعالى: {هَاأَنتُمْ أُولَاءِ} في الآية (١١٩) التي جاءت في سياق اتخاذ البطانة، وبقوله في آية (٦٦) من آل عمران: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}: ففي قوله: ها أنتم هؤلاء: دخلت هاء التنبيه على الضمير، وعلى اسم الإشارة في آن واحد مما يدل على أن التنبيه والتحذير وشدة اللوم هو أشد وأكبر في هذه الآية التي جاءت في سياق أهل الكتاب الذين يزعمون أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً مقارنة بالذين اتخذوا بطانة من دون المؤمنين.

ولنقارن أربع آيات:

الآية (١١٩) من سورة آل عمران: {هَاأَنتُمْ أُولَاءِ}: نجد تقديم هاء التنبيه على الضمير، وتأخير اسم الإشارة.

والآية (٨٥) من سورة البقرة: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلَاءِ}: نجد دخول هاء التنبيه على اسم الإشارة مع تقديم الضمير أنتم.

والآية (٦٦) من سورة آل عمران: {هَاأَنتُمْ أُولَاءِ}: نجد دخول هاء التنبيه على الضمير، وعلى اسم الإشارة في آن واحد.

والآية (٨٤) من سورة طه: {هُمْ أُولَاءِ}: لا نجد بها هاء داخلة على الضمير، ولا اسم الإشارة.

فلكل آية من هذه الآيات سياق مختلف من حيث شدة التحذير، والتنبيه؛ سنعود إليه حين دراستها.

{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}: وتصدقون بالكتاب. الباء: للإلصاق، وتعني: التمسك به. الكتاب: اسم جنس؛ أي: بكل الكتب السماوية المنزلة.

كله: توكيد للإيمان بكل الكتب، والدليل قوله سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: ٢٨٥].

وحذف وهم لا يؤمنون؛ حيث كان الأصل في الآية: وتؤمنون بالكتاب كله، وهم لا يؤمنون.

{وَإِذَا}: ظرفية للزمن المستقبل، وتتضمن معنى الشرط، وتفيد حتمية الحدوث.

{لَقُوكُمْ}: من اللقاء، وهو المواجهة، والتحدث، والفرق بين اللقاء والاجتماع: الاجتماع قد يكون في مكان ما، والكل موجود، ولا يجري اتصال، أو حديث بينهم. أما اللقاء: فهو اجتماع وحديث معاً.

{قَالُوا آمَنَّا}: أي: صدقنا بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، قالوا آمنا حذراً على أنفسهم، وهذه حال المنافقين.

{وَإِذَا خَلَوْا}: أي: خلا بعضهم ببعض، أو خلوا إلى رؤسائهم؛ بحيث لا يراهم المؤمنون، خلا به، وخلا إليه، وخلا معه، وخلا: سأله أن يجتمع به في خلوة ففعل (خلا معه)، وخلا قد تعني: مضى وذهب.

{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}: الأنامل: جمع أنملة رأس الأصابع كلها.

وعض الأنامل: عادة يعض على رأس الأنملة، ولا يعض الأنامل كلها، بل أنملة واحدة.

ولكنه استعمل الأنامل بدلاً من الأنملة (مجازاً) دليلاً على شدة الغيظ، والحقد، والندم.

وعضوا عليكم الأنامل: لأنهم لم يستطيعوا إلحاق الضرر والأذى بكم.

أو عضوا من شدة الغضب لما يرون من ائتلافكم، ووحدتكم.

{الْغَيْظِ}: قيل هو أشد من الغضب، والغيظ: هو الهيجان، وثورة النفس؛ لعدم القدرة على التشفي، والانتقام، والثأر بسبب سوء لحقه من الغير. ارجع إلى سورة التوبة، آية (١٥)؛ لمزيد من ا لبيان.

{قُلْ}: لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

{مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}: قل استمروا على غيظكم حتى الممات، أو موتوا وأنتم فيما أنتم عليه من الغيظ؛ لأن الله سبحانه متم نوره، ومظهر دينه.

والباء تفيد الإلصاق، موتوا والغيظ ملتصق بكم، أو ملازم لكم لا ينفك عنكم.

{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}: إن: للتوكيد، عليم: مطّلع ورقيب على كل نفس، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور.

بذات الصدور: تعني القلوب (القلب في الصدر).

ذات الصدور تعني: كل المعتقدات، والحقائق، والأحاسيس، والخواطر من نفاق، وإيمان، وحسد، ومكر، وكراهية، وحب، فهذه الأمور التي تعيش وتصاحب الإنسان تصبح كالصاحب الذي لا يفارق صاحبه، فلكونها ملازمة، أو مصاحبة لصدر الإنسان؛ أي: قلبه (تجول وتعيش فيه) تسمى ذات الصدور، وإن لم تخرج بعد إلى الناس.