للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة البقرة [٢: ٢٥٦]

{لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}:

قيل: نزلت هذه الآية في السنة الرابعة من الهجرة، وكان المسلمون أقوياء أعزاء.

{لَا}: النّافية للجنس.

{إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}: الإكراه: هو أن تحمل الغير على فعل من الأفعال، وهو كاره له، سواء أكان خيراً، أو شراً.

لم يجبر الله -جل وعلا- ، ولم يُكرِه أحداً من خلقه على الدخول في دينه، وطاعته، إلَّا بالاختيار، والتمكين. ارجع إلى الآية (١٣٢) من نفس السورة؛ لمعرفة معنى الدِّين.

فقد قال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: ٩٩].

أي: لو شاء الله سبحانه لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار فقال:

{قَدْ}: حرف تحقيق وتوكيد.

{تَبَيَّنَ}: تميز.

{الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ}: {الرُّشْدُ}: بضم الراء؛ أي: كيف يتم أو يحصل الصلاح في الأمور الدنيوية والأخروية، وقد تبين الطريق الموصل للنجاة، وسعادة الدارين، والهدى، والإيمان، والصلاح، والرُّشد: أعم من الرَّشد بفتح الراء: الذي يعني: الصلاح فقط في أمور الدين والآخرة؛ ارجع إلى سورة النساء آية (٦) لمزيد من البيان.

{الْغَىِّ}: الفساد: فساد الرأي والعقيدة والمذهب الباطل، والجهل، والضّلال، والهلاك، والكفر، والطاغوت، والأصنام. ارجع إلى سورة الحجر آية (٤٢) لمزيد من البيان.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}: من: شرطية، تفيد الاحتمال، والشك، والندرة، يكفر بالطاغوت.

والطاغوت: صيغة مبالغة مشتقة من طغى، والطغيان هو تجاوز حدود الله.

الطاغوت: تطلق على كل معتد، وكل معبود من دون الله، وتستعمل في الواحد والجمع.

ويشمل كبراء الظلمة من شياطين الإنس والجن.

وكل ما عبد من دون الله من البشر، وهو راض بهذه العبادة.

وسمي الساحر، والكاهن، والمارد من الجن، والصارف عن الحق طاغوتاً.

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}: يكفر بصيغة المضارع؛ لتدل على الاستمرار، والتجدد، ولم يقل كفر، بالطاغوت: الباء للإلصاق، والمداومة على الكفر.

{وَيُؤْمِن بِاللَّهِ}: إيماناً يتضمن توحيده في ألوهيته، وربوبيته، وأسمائه، وصفاته، وعبادته، وكذلك يؤمن بالملائكة، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء خيره وشره.

{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ}: {فَقَدِ}: الفاء رابطة لجواب الشرط، قد: للتحقيق، والتوكيد؛ أي: تأكد استمساكه بالعروة الوثقى.

استمسك، ولم يقل أمسك: لأنّ استمسك أشد استمساكاً، وفيها معنى الحرص على الإمساك بالمجاهدة والصبر على دينه، والدعوة إلى الله ومجاهدة أهواء النفس، والشيطان، والفتن.

{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}: الباء: للإلصاق، والمصاحبة، {الْوُثْقَى}: تأنيث الأوثق، والوثيق الثابت المحكم.

والعروة: وهي الّتي نراها في طرف الحبل على هيئة الحلقة، والعروة في الثوب المكان الّذي يُدخل به الزر، والمقبض الّذي يمسك به الدلو.

فالعروة الوثقى: تحتاج إلى الحبل، وهو القرآن، أو دين الإسلام؛ أي: من تمسك بالقرآن والسنة؛ فقد استمسك بالعروة الوثقى.

{لَا انْفِصَامَ لَهَا}: لا انفصام؛ أي: لن تنفك، أو تنحل ناهيك عن الانقطاع؛ أي: لا يخاف السقوط في النار، ولا الهلاك، وسوف ينجو، ويصل إلى غايته، وهي الجنة العالية.

{وَاللَّهُ سَمِيعٌ}: لما يقوله من يؤمن بالله، ويكفر بالطاغوت، سميع لأقوال عباده في السر والعلن.

{عَلِيمٌ}: ببواطن وظواهر ما يخفونه، وما يبدونه؛ من أقوال، وأفعال.

وبما تخفي الصدور من تصديق بالإيمان، أو تكذيب، وعليم بمعتقداتهم، وأفعالهم، وبإيمانهم، ونواياهم، وغاياتهم.

وهذه الآية: {لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ}: دليل واضح على بطلان من زعم أنّ الإسلام انتشر بالقوة والسيف.

لنقارن هذه الآية مع الآية (٢٢) من سورة لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.

في آية لقمان: لا يذكر لا انفصام لها، ويذكر وإلى الله عاقبة الأمور.

أما في آية البقرة: يذكر لا انفصام لها، والله سميع عليم، وهذا الاختلاف يرجع إلى السياق في البقرة في اتباع الطاغوت.

وفي لقمان: السياق في اتباع الآباء، وهو أقل شدة من اتباع الطاغوت، فلا يحتاج إلى توكيد بالقول لا انفصام لها، ولا التهديد بالقول، والله سميع عليم.