للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

سورة النحل [١٦: ١١٢]

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}:

بعد أن هدَّد الله سبحانه الكفار، والمرتدين بالغضب، والعذاب العظيم في الآخرة؛ يهددهم في هذه الآية بآفات الدّنيا، وما يمكن أن يحل بهم إذا كفروا بأنعم الله.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا}: ارجع إلى الآية (٧٤) من نفس السّورة؛ لمعرفة معنى ضرب المثل، وضرب الأمثال يكون من باب المُبين.

{قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً}: قرية: قيل: هي مكة، كما قال أغلب المفسرون، والعبرة بعموم اللفظ، وليس بخصوص السبب.

{كَانَتْ آمِنَةً}: من الخوف من الاعتداء، والقتال.

{مُّطْمَئِنَّةً}: عندها مقومات الحياة الطّيبة، والمستقرة.

{يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}: لا يحتاج أهلها إلى الانتقال والتّرحال طلباً للرزق، رزقها يأتيها من كلّ مكان من الثّمرات، والمنتجات، والطّعام، والشّراب، ومن متاع الدّنيا في رحلة الشّتاء، والصّيف من الشّام، واليمن.

{رَغَدًا}: الرّغد: العيش الهنيء الواسع.

وقدَّم الأمن على الرّزق؛ لأنّ الرّزق لا يأتي إلا إذا توافرت الطّرق الآمنة؛ لوصول الرّزق، والسّفر، والتّنقل من دون خوف.

{فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}: الفاء: تدل على التّرتيب، والمباشرة؛ كفرت بأنعم الله؛ أي: الربانية الظاهرة؛ أيْ: جحدت النّعم، وأنكرت توحيده، وأشركت به، وكذبت برسوله محمّد -صلى الله عليه وسلم-، واستعملت نعم الله تعالى في سبيل التّصدي، ومنع النّاس من الدّخول في الإسلام، والصّد عن سبيل الله بدلاً من شكر المنعم، والثّناء عليه.

وكلمة أَنْعُم: وردت مرتين في كل القرآن في هذه الآية، والآية (١٢٠) من نفس السورة، والأنْعُم: جزء من النِعَم؛ النعم: شاملة للظاهرة والباطنة، أما الأُنْعم: فهي الظاهرة.

{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ}: الفاء: للترتيب، والتّعقيب؛ إذا نظرنا في هذه الآية نجد ثلاثة أسئلة:

الأوّل: لماذا استعمل كلمة: أذاقها بدلاً من مسها الجوع والخوف؟ الجواب: لأن التذوق يعني: تمكن الطعام من الامتصاص أو التسرب إلى اللسان؛ أي: جسم الإنسان، وأما المس: فهو الإصابة الخفيفة التي قد لا يكون لها أثر، فالتذوق أشد من المس؛ فيدل ذلك على أن الجوع والخوف قد أثر فيهم، وترك آثاره لزمن طويل، وكذلك التذوق قد يكون مراً كما هو الحال في بعض الأطعمة، وكذلك الجوع والخوف كان مراً مكروهاً عندهم.

والثّاني: لماذا شبه الجوع، والخوف باللباس؟ لأن اللباس يحيط بالجسم كاملاً، وكذلك أحاط بهم الجوع والخوف، وتمكن منهم، فالكل أصيب بالجوع والخوف معاً.

والثّالث: لماذا قدَّم الجوع على الخوف؟ أولاً: لأن الجوع أشد على الإنسان من الخوف؛ أي: يمكن أن يتحمل الإنسان الخوف، ولكن لا يتحمل الجوع. ثانياً: لأن الجوع يسبق الخوف، أو يؤدي إلى الخوف حيث أن الجوع قد يؤدي إلى السرقة والقتل، وهذا بدوره يؤدي إلى الجريمة والخوف.

فالمس يعني: الإصابة الخفيفة، والذّوق يعبر عن الإصابة الأشد؛ فأذاقها تعني: الجوع؛ أيْ: أجاعها، والجوع: أقوى الحواس، وأشد ألماً وحساً من المس؛ فلذلك استعمل الذوق. ارجع إلى سورة هود، آية (٩)؛ لمزيد من البيان.

واستعمل لباس الجوع، والخوف: لشدة الجوع؛ أي: الحرمان من الطّعام، والذي استمر عدة سنين، والخوف الّذي حل بمكة، وقريش؛ فعندما يقل الطّعام يحتاج الجسم إلى الطاقة الحرورية، وعندما تنقص السكريات في الجسم؛ مما يؤدِّي إلى التّحول إلى استعمال الدّهون (المادة الشحمية)؛ كمصدر للطاقة، وإذا استمر الجوع يؤدِّي في النّهاية إلى استعمال البروتينات في توليد الطّاقة، وعندها تظهر على الجسم علامات شدة الجوع على البشرة الجلدية الّتي تجف، وتنكمش، وتتغير معها ملامح الوجه، ويظهر الشّحوب، ويقل وزن الإنسان، ويصبح متعب مرهق.

فالجوع الشّديد تصاحبه تغيرات في البشرة، واللون، والجسم، والوزن، تغيُّرات ظاهرية تشبه باللباس الّذي يحيط بالإنسان، كما أحاطت مظاهر شدة الجوع بجسم الإنسان، وهذا ما حدث لقريش أصابهم الفقر الشّديد في سبع سنين؛ فكانوا يأكلون الجيف، والعظام.

وأمّا الخوف الشّديد، فكذلك يؤدِّي إلى تغيُّرات في جسم الإنسان تؤدِّي إلى فرز هرمونات تؤدِّي إلى إثارة نهايات الأعصاب الّتي تقبض مسام البشرة، وبالتّالي مما يؤدِّي بالخائف إلى اضطرابات في عدد ضربات القلب، ويقشعر جلده، ويتغير لونه، وبالتّالي تحيط تلك التّغيرات بكامل الجسم، وهذه التّغيُّرات العامة الناتجة عن الخوف تشبه اللباس الّذي يحيط بالإنسان؛ فقد كانت قريش تعيش حالة غير آمنة مهددة من القبائل الأخرى، واليهود، والرّعب الّذي بثَّه الله في قلوبها، وهذه الآية من آيات الإعجاز العلمي الطّبي في القرآن الّذي يدل على عظمة القرآن، وأنّه منزل من الخالق.

والجواب على السّؤال الثّالث: أمّا تقديم الجوعّ على الخوف؛ فلأنّ الإنسان يحتاج إلى الطّعام قبل الأمن؛ لأنّ الجوع إذا اشتد قد يؤدِّي إلى السّرقة، أو القتل أحياناً، وإشاعة الخوف، والرّعب في قلوب النّاس؛ فقدَّم الأهم أولاً، وهو الجوع على الخوف.

{بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}: بما: الباء: باء البدلية، أو السّببية.

{يَصْنَعُونَ}: ولم يقل: يعملون؛ لأنّهم أصبحوا على درجة عالية من ممارسة الشّرك والكفر، والإصرار عليه، ومعاداة الرّسول -صلى الله عليه وسلم-، وأصبحوا ماهرين لا يفوقهم أحد، فهم تجاوزوا مرحلة العمل إلى مرحلة الصّنع، والصّنع: هو حسن العمل؛ أيْ: أصبحوا راسخون في صناعة الكفر؛ أيْ: تفنَّنوا في الكفر، والشّرك، ولم يكتفوا بذلك؛ فحاولوا قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فدعا عليهم رسول الله فاستجاب الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وألبسهم لباس الجوع، والخوف.