سورة النساء [٤: ١١]
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَّمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ}: يعهد إليكم ـ يلزمكم ـ يأمركم، وقيل: الوصية من الله فيها معنى الفرض والإلزام، وفيها معنى الإشفاق للموصى لهم واهتمام به. يُوصيكُم: من أوصى، وهناك فرق بين أوصى وكلمة وصَّى، كما في قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: ١٣٢]، فالقرآن يستعمل وصَّى للأمور المعنوية، وأمور الدين، ولما هو أبلغ وأهم من أوصى التي إذا أطلقت تعني الأمور المادية، وإذا قيدت قد تعني المادية والمعنوية.
{فِى أَوْلَادِكُمْ}: الولد يقع على الذكر والأنثى، والمولود فعلاً، والجنين في بطن أمه، والولد يقتضي الولادة، والابن لا يقتضي.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ}: ولم يقل: بأولادكم (كما قال تعالى في كثير من الآيات: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ}).
هناك فرق بين استعمال كلمة في، والباء، والباء: تفيد التوكيد.
فحينما يوصي الله الآباء بالأولاد يقول: في أولادكم؛ لأن الآباء ليسوا بحاجة إلى من يؤكد لهم العناية ورعاية أولادهم، ولأن هذه الوصية بتوزيع الميراث هي عبارة عن استمرار لرعاية الأولاد، والخوف عليهم من الحاجة والفقر، قبل الموت وبعد الموت، فليس الآباء بحاجة إلى تأكيد باستعمال الباء.
وحينما يوصي الأولاد بالآباء يقول: بوالديه، يستعمل الباء، والباء: للإلصاق، والتأكيد؛ لأن من الأولاد من هم بحاجة إلى تذكير وتوكيد برعاية الآباء، والعناية بهم.
أولاً: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ}: اللام: لام الاستحقاق أو الاختصاص، والحظ: يعني القسم المعين، والحظ في القرآن قد يأتي في سياق الخير، وأما النصيب قد يأتي في سياق الخير أو الشر؛ لماذا لم يقل: للأنثيين مثل حظ الذكر، أو للأنثى نصف حظ الذكر؟
السبب: ربما هو أنه سبحانه أراد أن يكون المقياس، أو المكيال هو حظ الأنثى، ويكون حظ الذكر منسوباً، ولكنه فضل الأنثى؛ أيْ: حقها، أو نصيبها يعطى، أو يوفى قبل حق أو نصيب الذكر؛ أي: حقها مقدم على حق الذكر وهو الأهم؛ لأن حق المرأة مغبون عادة، ولذلك جعل حظها هو المقياس.
ثانياً: لماذا للذكر مثل حظ الأنثيين؛ أيْ: لماذا فرض الله للأنثى نصف نصيب الذكر؟ أليس هذا ظلماً للأنثى، كما يرى البعض؟
الجواب: لأن الأُنثى مسؤوليتها على والدها حتى تتزوج؛ أي: الإنفاق عليها في كل ما تحتاجه يقع على والدها؛ فإذا تزوَّجت؛ فزوجها مطلوب منه أن ينفق عليها شرعاً، ونصفها الذي أخذته من الميراث يبقى لها، وليس عليها أن تنفقه، أو تعطيه إلى زوجها؛ إلا إذا أرادت، ورغبت؛ أيْ: هو نصف خالصٌ لها.
وإذا لم تتزوج ومات أبوها عنها، فالنصف يكفي لها؛ لأنها من دون أولاد وعائلة.
وأما الذَّكر: فقلما يبقى من دون زواج وأولاد، فهو مسؤول عن نفسه، وعن عائلته، وبغض النظر عن المبررات، والحكمة لماذا فرض الله ذلك، فيكفي أنه أمر من الله سبحانه، والله لا يُسأل عما يفعل، أو يأمر به.
{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}:
{فَإِنْ}: الفاء: عاطفة، أو استئنافية، إن: شرطية تفيد الاحتمال.
{كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}: أيْ: مات المورث، ولم ينجب ذكراً، وإنما أنجب ثلاث بنات، أو أكثر.
{فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}: والثلث الباقي يوزع على الآخرين المستحقين من الورثة.
{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}:
{وَإِنْ}: الواو: عاطفة.
{وَإِنْ}: شرطية تفيد الاحتمال.
{كَانَتْ وَاحِدَةً}: أيْ: مات المورث، وترك بنتاً واحدة، ولم ينجب غيرها فلها نصف ما ترك، والنصف الآخر يوزع على الآخرين المستحقين من الورثة.
وأهم نقطة هنا يجب أن نقف عند النصف. انتهت الوصية لهذه البنت.
وأما قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}: فهذه وصية جديدة؛ أيْ: إن مات المورث، وترك ولداً ذكراً، أو أنثى، وله أبوان أحياء يأخذ كل أب منهما السدس، ويوزع الباقي على الأولاد.
ولم يذكر الحق سبحانه: فيما إذا ترك المورث الذي مات بنتين فقط، أجمع العلماء على أنَّ لهنَّ ثلثي ما ترك؛ كل واحدة تأخذ الثلث مما ترك، والباقي يوزع على الآخرين من المستحقِّين من الورثة.
إذن نُعيد الشرح، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد.
{وَلِأَبَوَيْهِ}: أيْ: أبوي الميت؛ أيْ: إذا كان الميت قد ترك أولاداً ذكوراً، أو إناثاً، وترك أبويه (تطلق على الأب والأم)، يأخذ الأب السدس، والأم تأخذ السدس، والباقي يوزع على الأولاد.
والسبب في تساوي نصيب الوالدين (السدس) مع وجود الأولاد: هو توقيرهما، واحترامهما على السواء.
وأما كون نصيب الوالدين أقل من الأولاد؛ فلكبرهما، وعدم حاجتهما، والله أعلم.
{فَإِنْ لَّمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}:
{فَإِنْ}: الفاء: عاطفة، إن: شرطية احتمالية. مات الميت وترك مالاً، ولم يكن له ولد (ذكراً، أو أنثى)، وورثه أبواه؛ فلأمه الثلث، والثلثان الباقيان للأب والزوجة، ولو لم يقل: لأمه الثلث فقد يظن ظانٌّ أن المال يوزع منهما؛ أي: الأم نصف والأب نصف، فلما خصَّها بالثلث؛ دلَّ على أن الأب له ما تبقى.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}:
أيْ: مات الميت وليس له ولد، وله إخوة وأم.
وجود الإخوة (ذكور وإناث) مع الأم يحجب الأم من الثلث إلى السدس؛ أيْ: تعطى الأم السدس، والباقي من التركة يوزع على المستحقين من الورثة: الزوجة، والأب إذا كان حياً، والإخوة (ذكوراً وإناثاً).
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}:
أيْ: تكون قسمة التركة بعد قضاء دَين الميت، وإخراج ما وصى به المورث الميت (الثلث، أو أقل من الثلث).
ولماذا قدَّم الوصية على الدَّين مع أن الدَّين حق عليه، والوصية حق له، والدَّين واجب، والوصية تطوع؟ فقد تكون الحكمة حثاً على تنفيذ الوصية، والاهتمام والترغيب في فعلها، والدَّين معلوم يجب سدداه، وليست هي أفضل من الدَّين، وكي لا يتغافل عنها الناس في ساعة سدادهم للدَّين.
وقوله: {يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}: أو: هنا لا تعني الترتيب، وإنما تدل على الاختيار، ويجب ملاحظة أن الوصية قُدِّمت في التلاوة (القراءة)، بينما الدَّيْن يقدَّم عليها في الأداء.
{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}: آباؤكم: تعني الأب، والأم؛ أما الوالدان: هم الوالد والوالدة.
{لَا تَدْرُونَ}: لا: النافية.
{أَيُّهُمْ}: أيُّ الاستفهامية.
{أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}: في الدنيا والآخرة؛ أيْ: لأنكم {لَا تَدْرُونَ}: أيْ: تعلمون من الدراية من درى. قيل: بمعنى علم، وهل هناك فرق بين درى، وعلم؟
قيل: الدراية: أخص من العلم، وعلم: أعم، وتكون بمنزلة الإخبار.
وقيل: إن درى: يكون فيما سبقه شك، والدراية: تكون بعد الجهل بالشيء.
أيْ: لكونكم لا تدرون آباءكم وأبناءكم أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، فعليكم أن تنفذوا هذه الوصية المفروضة، كما علمكم الله، ولا تفضلوا أحداً على أحد؛ لأنكم لا تدرون، فالله هو المشرع وحده، وتشريعه بعلم وحكمة، ولا يعلم الغيب إلا هو، فلا تتلاعبوا، ولا تقسموا الميراث حسب أهوائكم، فتعطي زوجتك التي تحبها أكثر مما فُرض لها، أو تعطي هذا الابن أكثر من ذلك، أو تحرم هذا، وتعطي ذاك، وهكذا.
{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ}: أيْ: فرض الله ذلك فرضاً عليكم فريضة، وليست على سبيل الاستحباب.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}:
{إِنَّ}: للتوكيد.
{كَانَ}: تشمل كل الأزمنة: الماضي، والحاضر، والمستقبل. كان عليماً حكيماً. قبل أن يشرع لكم أي شرع أو حكم وكذلك كان عليماً بأنكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً.
{عَلِيمًا}: بمصالح خلقه منذ الأزل، ويعلم الأمر قبل وقوعه، ويعلم حقيقة البشر كلهم جميعاً في أيِّ زمانٍ ومكانٍ.
{حَكِيمًا}: في كل ما فرض وقسم من المواريث. حكيم في تدبير شؤون خلقه وكونه؛ فهو أحكم الحاكمين سبحانه، وهو أحكم الحكماء.