سورة آل عمران [٣: ١١١]
{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}:
{لَنْ}: حرف لنفي الضرر عنكم في المستقبل القريب والبعيد.
{يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}: إلا: أداة حصر؛ أي: لا تظنوا هذه الأكثرية الفاسقة قادرة على إلحاق الضرر بكم، وإنما قد يؤذوكم بالقول، أو الاستهزاء، أو السخرية، والطعن، والكذب.
يضروكم إلا أذى: لن يضروكم: ما معنى الضرر: الحدث المؤلم الذي له آثار تمتد على زمن طويل كما يحدث في الحروب والسلب والنهب.
أما الأذى: هو الحدث المؤلم ساعة وقوعه، وينتهي سريعاً بعد فترة من الزمن، والضرر أشد من الأذى، والأذى يحدث أولاً، وإذا استمر قد يصبح ضرراً.
{وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ}: الواو: عاطفة، إن: شرطية جازمة، تفيد معنى الاحتمال، وتستعمل للأمور النادرة الوقوع.
يقاتلوكم: أصلها يقاتلونكم حذف منها النون؛ تعني: عدم توكيد قتالهم لخوفهم منكم.
{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ}: أي: ينهزموا أمامكم (تولية الأدبار تدل على الهزيمة والخذلان).
حذف النون من يولونكم فقال: يولوكم (وهي جواب الشرط، وحذف منها النون) لتعني يولوكم الأدبار بسرعة.
والأدبار جمع دبر، والدبر يقابله القبل، وتعني الظهر، واستعمل الدبر بدلاً من الظهر، أو العقب (عقب القدم) لبشاعة الانهزام أمام العدو.
ولا بد من الانتباه إلى أمر هام: هو أن القرآن العظيم يستعمل غالباً الدبر في الانهزام أمام العدو، وفي القتال والانسحاب من أرض المعركة، ويستعمل العقب غالباً في الارتداد عن دين الله، والكفر، والضلال بعد الإيمان.
أمثلة: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: ١٥]؛ أي: الفرار من أرض المعركة.
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [الفتح: ٢٢]؛ أي: فروا من أرض المعركة.
{أَفَإِين مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: ١٤٤]؛ أي: عدتم إلى الكفر والشرك والعصيان أو الردة.
{إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: ١٤٩].
لأن الفرار أمام العدو يمكن العدو من ظهورنا، أو أدبارنا، فهذا أمر عظيم مستهجن، وحين يفر المسلم من أرض المعركة، أو التولي يوم الزحف من الكبائر.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ}: بدلاً من قوله: ثم لا ينصروا، فهنا عطف بالرفع بدلاً من أن يعطف بالجزم.
وهذا له أهمية بلاغية هامة؛ لأنه لو جزم الفعل فقال: ثم لا ينصروا؛ لكان النصر مقيداً بتلك المعركة فقط؛ أي: تنصروا مرة واحدة، أو مرتين على الأكثر.
ولكن حين رفع الفعل، وقال: ثم لا تنصرون: كأنه وعدٌ مطلقٌ بالنصر المتكرر مرات عديدة، وليس مرة واحدة فقط؛ ليطمئن المؤمنين.
وانظر إلى كلمة (ثم) التي تدل على التراخي في الزمن؛ أي: في الزمن القادم البعيد، وهذا يدل على حكم الله تعالى على أهل الفسق، والكفر أنهم لا ينصرون أبداً، سواء بقتال أو غيره، وإن انتصروا مرة أو مرتين فلن يطول ذلك، ويعود النصر إليكم، وهذا إشارة ووعد من الله للمؤمنين يبعث في روح المؤمن التفاؤل ويحثه على التوكل على الله، واليقين بنصر الله تعالى.
يؤيد ذلك قوله تعالى في الآية (١٢٦) من سورة آل عمران: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.