سورة البقرة [٢: ٧٤]
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}:
{ثُمَّ}: للترتيب، والتراخي الزمني.
{قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}: بعد أن أراكم آياته، وكيف يُحيي الموتى.
واختار القلب؛ لأنه منبع اليقين، ومصب الإيمان؛ لأنّ الإيمان محله القلب.
{قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}: خلت من الطاعة، والخشوع، والإنابة، ولم تعد تتأثر بالآيات، والنذر، والوعد، والوعيد.
ومن أهم الأسباب الداعية، أو المسببة لقسوة القلب، نسيان ذكر الله، واقتراف المعاصي، والظلم، والطغيان، ونقص المواثيق.
{مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}: من بعد كل تلك الآيات، والأدلة على قدرة الله على الإحياء، والبعث، وإنزال التّوراة عليكم.
{فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ}: الكاف؛ كاف التشبيه، والحجارة: هي الشيء القاسي، الذي تدركه حواسنا والمألوف لدينا، {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}: من الحجارة، ولم يشبهها بالحديد؛ لأنّ الحديد يلين بالنار.
وقوله: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}: أو تعني: بل هي أشد قسوة من الحجارة.
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}:
{وَإِنَّ}: للتوكيد.
{مِنَ}: ابتدائية، بعضية. {الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}: كما حدث، حين ضرب موسى -عليه السلام- بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ}: والتشقق؛ يعني: تدفق الماء تدريجياً.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}: كما حدث؛ حين تجلى الرب للجبل، فجعله دكاً، وخر موسى صعقاً، وتكرار {وَإِنَّ مِنْهَا}؛ يفيد التّوكيد.
{يَهْبِطُ}: يخر؛ ويسقط من أعلى إلى أسفل؛ من خشية الله. وتعريف الخشية: هي خوف حقيقي مقرون بالعلم والتعظيم والمهابة من الخالق. وليس فقط الخوف كما يظن البعض.
فالحجارة؛ وغيرها من الجمادات، والنباتات؛ تسبح بحمد ربِّها؛ كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: ٤٤]، وتنقاد لأمر ربها.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: وما؛ النّافية، {بِغَافِلٍ}: الباء؛ للإلصاق، غافل: لا يعلم. والغافل: هو الساهي عن الأمر؛ لعدم اليقظة، أو الانتباه، أو عدم التفطن للشيء، أو عدم حضور الشيء في البال، وأما النسيان فهو عبارة عن الغفلة عن الشيء، وانمحاء صورته كاملاً في الذاكرة. ومنهم من قال: الغفلة هي ترك الشيء سهواً، وربما كان عن عمد، وغفل فلان عن الشيء تركه ساهياً، أو أغفلته إذا تركته على ذكر منك له؛ أي: تركه للشيء باختيار الغافل وأما النسيان فقيل ترك بغير اختيار الإنسان, والغفلة أعم من النسيان فكل نسيان غفلة وليس كل غفلة نسيان.
والغفلة كما عرفها الراغب الأصبهاني: هي سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، والغفلة وردت في القرآن بمعنى الجهل كقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: ٦]، وردت بمعنى النسيان والترك لأمر الله تعالى كقوله: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: ٢٨].
والغافلون: هم المعطلون أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم عن التدبر والتأمل بآيات الله.
والغفلة أنواع: الغفلة عن الله تعالى، وهي أعظمها إثماً، والغفلة عن سنن الله في الكون، والغفلة عن الآخرة والحساب والجزاء والعقاب.
{عَمَّا}: عن تفيد المجاوزة، والابتعاد، ما: اسم موصول، بمعنى: الذي، أو مصدرية بمعنى: عملتم.
{تَعْمَلُونَ}: تشمل الأقوال، والأفعال، ولم يقل عما يعملون؛ لأن تعملون فيها تحذير وترهيب أقوى مما يعملون.