وأما الحديث الذي فيه: "أن عمارًا تقتله الفئة الباغية" فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم، لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري، قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان، وليس بشيء، بل يقال ما قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه كما قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)} [الحجرات: ٩]، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين، وليس كل ما كان بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟ ! . وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان: متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية، وبعضهم بعض عقود التحليل، والمتعة، وأمثال ذلك، نقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف، فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال اللَّه تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٢٨٦]. وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر، لم يكن بذلك ملوما ولا مانعا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثما وظلما، والإصرار عليه فسقا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرا، فالبغي هو من هذا الباب. أما إذا كان الباغي مجتهدا ومتأولا ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئا في اعتقاده، لم تكن تسميته باغيا موجبة لإثمه فضلًا عن أن توجب فسقه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم، لا عقوبة لهم، ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون.