الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثا صحيحا مسندا ولا مرسلا، علم أنه لم يذكر شيئا من ذلك، والحديث المروي في الكحل ضعيف، رواه أبو داود، ولم يروه غيره ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب.
ثم ساق هذا الحديث، ثم قال:
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر، لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله صلى الله عليه وسلم:" وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس: كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أوغيره من حشو جوفه، والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء، ثم قال:
وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:
أحدها: أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في " الأصول ": إن الأحكام الشرعية بينتها النصوص أيضا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا أن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد.
ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مفطرة.
الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لابد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولابد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا، علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان،
ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنته خروج الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين