(تنبيه) وما سبق من أقوال الأئمة في الواقدي، جرح مفسر لا خفاء فيه، فلا تلتفت بعد ذلك إلى محالة ابن سيد الناس في مقدمة كتابه " عيون الأثر "(ص ١٧ - ٢١) المدافعة عنه اعتمادا منه على توثيق من وثقه، ممن لم يتبين له حقيقة أمره، ولا إلى قول ابن الهمام معبرا عن رأي الحنفية فيه:" والواقدي عندنا حسن الحديث "، كما نقله الشيخ أبو غدة الكوثري (!) في تعليقه على " قواعد في علوم الحديث " للتهانوي (ص ٣٤٩) ، بمناسبة قول التهانوي هذا في صدد رده على قول الحافظ في " الفتح ": " وقد تعصب مغلطاي للواقدي، فنقل كلام من قواه ووثقه، وسكت عن ذكر من وهاه واتهمه، وهم أكثر عددا وأشد إتقانا، وأقوى معرفة من الأولين ... وقد أسند البيهقي عن الشافعي أنه كذبه ".
فرده التهانوي بقوله:" ولم يتعصب مغلطاي للواقدي، بل استعمل الإنصاف، فإن الصحيح في الواقدي التوثيق "! أقول: فلا تغتر بهؤلاء الذين مالوا إلى توثيقه، فإنهم خالفوا القاعدة المتفق عليها عند المحدثين أن الجرح المفسر مقدم على التعديل، ولعل الحنفية يقولون هنا كما قالوا فيما جرح به أبو حنيفة رحمه الله:
إن مصدر ذلك التعصب! وبذلك طعنوا في أئمة المسلمين بغير حق، في سبيل تخليص رجل منهم مما قيل فيه بحق. فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وبعد كتابة ما سبق رأيت للشيخ زاهد الكوثري كلاما حسنا حول جرح الواقدي اتبع هنا سبيل أئمة الحديث وأقوالهم، فأرى أنه لا بأس من نقل كلامه ملخصا، لا احتجاجا به - فليس هو عندنا في موضع الحجة - وإنما ردا به على متعصبة الحنفية - وهو منهم - الذين لا يبالون بمخالفة أقوال أئمة الحديث ونقاده، إذا كان لهم في ذلك هوى، كما فعل التهانوي، وقلده أبو غدة الكوثري، مع أنه خلاف قول شيخه الكوثري الذي يفخر بالانتساب إليه، فقد قال في " مقالاته "(ص ٤١ - ٤٤) في صدد رده على من احتج بحديث الواقدي المتقدم برقم (١٤) : " انفرد بروايته من كذبه جمهرة أئمة النقد بخط عريض، فقال النسائي في " الضعفاء ":
الكذابون المعروفون بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة: الواقدي بالمدينة.
وقال البخاري: قال أحمد: الواقدي كذاب. وقال ابن معين: ضعيف ليس بثقة. وقال أبو داود: لا أشك أنه كان يفتعل الحديث. وقال أبو حاتم: كان يضع. كما في " تهذيب التهذيب " وغيره. وجرح هؤلاء مفسر لا يحتمل أن يحمل التكذيب في كلامهم على ما يحتمل الوهم كما ترى، وإنما مدار الحكم على الخبر بالوضع أو الضعف الشديد من حيث الصناعة الحديثية هو انفراد الكذاب أو المتهم بالكذب أو الفاحش الخطأ، لا النظر إلى ما في نفس الأمر، لأنه غيب. فالعمدة في هذا الباب هي علم أحوال الرواة، واحتمال أن يصدق الكذاب في هذه الرواية مثلا احتمال لم ينشأ من دليل فيكون وهما منبوذا ".