للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[قصة وعبرة]

محمد الحسيني

في معهد تدريس اللغة الإنكليزية وفي مادة تقدم لتطوير القدرة على الكلام

تحلق الطلاب الأجانب من عرب وآسيويين ومن جنوب أمريكا حول المدرس الذي

بدأ حديثه بإعطاء وصف لطريقة تقديم الكلمة أو الخطبة، وضرورة البداية بكلمة

جامعة تلمح إلى الموضوع، ثم الدخول في تحديد واضح له ثم إعطاء فكرة عن

موقف المتكلم من القضية التي يريد نقاشها، ثم عناصر الموضوع وسرد الأفكار

وأدلتها. وكان موضوع الحديث: الكلام عن الخمر وأضرارها الشاملة للفرد

والمجتمع، ومع المدرس الكتاب المنهجي الذي يساعد على طريقة التدريس، وفيه

مثال كامل للكلمة المطلوبة، وفيه أدلة إقناع بأخطار الخمر حيث تسبب موت مئات

الآلاف من الناس، وتكاد تكون السبب الأول للموت في أمريكا من حيث الأسباب

المباشرة لحوادث السيارات أو الموت البطيء؛ لما تسببه من أمراض عصية تُميت

ببطء. وبدأ المدرس درسه أو كلمته في الموضوع وبحماسة ظاهرة لأخطار هذا

المرض، واتبع الأسلوب المطلوب في العرض وكان مقتنعاً بما يقول.

ثم أمر الطالب الأول بالحديث عن الخمر حيث تحدث طالب مسلم مؤكداً فكرة

المدرس وأن الخمر مفسدة للحياة مدمرة للخلق ولم يزد عما قاله المدرس لضعفه في

التعبير عن رأيه ولأنه مبتدئ في تعلمه الإنكليزية. ثم تحدث بعده طالب مسلم آخر

وقرر ما سبق أن قرره الأستاذ والطالب الأول، وكان هدفه مجرد الكلام ليتمرن

على الإنكليزية لا للإقناع..

وفجأة وقبل انتهائه من حديثه انفجر المدرس غضباً واحمر وجهه بما يشير

إلى سخط عظيم وقال: إنكم تتحدثون عن الخمر وفساده بعاطفة دينية ولا تناقشون

القضية بأسلوب علمي، إن الدافع الديني يحرككم لهذا الموقف الغريب الخاطئ تجاه

الخمر وشربها وموقفكم من الخمر خطأ فادح حيث الخمر مفيدة للصحة، وطبيبي

الخاص ينصحني بأن أشرب كأساً من الخمر على كل عشاء! فما كان من الطلاب

إلا أن التقت أبصارهم يتبادلون ألحاظ السخرية والاحتقار لهذا المدرس الغبي الحاقد

الذي كذّب العلم والعقل والكتاب الذي يقرؤونه، وكذب نفسه أخيراً في حديثه

الافتتاحي عن مصائب الخمر، وكذب تاريخ أمريكا وتاريخ البشرية كله بما سجل

عن هذا الشر العريق. والسبب الذي دفعه إلى هذا أن الطالبين كانا مسلمين يبدو

عليهما التدين الذي يدرك المدرس علائمه من سلوكهما المترفع من بين طلاب

المعهد، ويدرك أنهما يكرهان الخمر ويحتقران أهلها لأن الله حرمها. وأما العلم

والعقل فقد حرمها وحرمتها أمريكا سنة ١٩٣٠ فلم تستطع التنفيذ وتحولت البيوت

إلى مصانع للخمور وكثر القتلى والمسجونون والمطاردون بسببها.

لقد كان المدرس يريد من الجميع التأكيد على نقد الخمر ونقد السكارى، ولكن

حين أحس بالنقد الآتي من الدافع الديني فقد عقله وتحول إلى شخص متناقض من

شدة كراهيته للإسلام.

ليس الغريب أن يقف هؤلاء هذا الموقف مما يخالف آراءهم ويثير تعصبهم؛

ولكن الغريب أن يتأثر بهذه الروح كثير من المسلمين الذين يقبلون النقد من جميع

الجهات غير المسلمة ولا يقبلونه من إخوانهم في العقيدة، فتجد حرباً شعواء تعلن

على من يلفت نظرهم إلى أخطائهم وعيوبهم من المسلمين الذين يستشهدون بـ

(قال الله، وقال رسوله) .