للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

التنمية بين المشروع الحضاري الغربي

والمشروع الحضاري الإسلامي

(٢)

أ. د. نبيل السمالوطي

تحدث الكاتب الكريم في الحلقة السابقة عن الفرق بين منطلقات المشروع

الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، وبيّن مفهوم الحضارة وفضل

المسلمين فيها، ثم بيّن أهم جوانب الاختلاف بين المشروعين، وأوضح من هذه

الجوانب: الموقف من الكون والحياة، والنظرة إلى الطبيعة الإنسانية، والموقف

من مصادر المعرفة ومصادر التوجيه.. ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بيان

جوانب أخرى من الموضوع.

الجانب الرابع: من جوانب الصراع بين المشروع الحضاري الغربي

والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في الموقف من العلم والعالم [١] ؛ فالعلم

المادي التجريبي في المشروع الغربي هو المصدر الأساس والوحيد للسيطرة على

البيئة، وهو المصدر الوحيد للرفاهية والرزق والتقدم، فالإمكانات في العالم هي

الإمكانات المادية التي يمكن حسابها ومشاهدتها وإخضاعها للبحث العلمي الواقعي

من خلال الحاسبات الآلية، والعلم هو السبيل الوحيد للتنمية والتقدم، ولا شيء

خارج العلم والعالم المحسوس، وهذا يعني: أن منطلقات العلم وآلياته وأهدافه تدور

في دائرة المادية والعلمانية والنفعية والقدرة البشرية لاغير.

وفي المقابل نجد أن المشروع الإسلامي يرفع من مكانة العلوم الشرعية

والتجريبية ويعدها جميعاً علوماً إسلامية، طالما أن المسلم مكلف بالنظر والبحث

والتجريب، وطالما أنها تصدر عن عقل بشري مخلوق لله (تعالى) ، وطالما أنها

تبتغي الوصول إلى الحقائق (العلوم الشرعية) أو إلى القوانين أو السنن التي تحكم

ظواهر وحركات الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ، وهي في النهاية سنن الله في

خلقه. وهذا يعني: أن الاهتمام بالعلوم الشرعية والتجريبية في المشروع الإسلامي

يعد مطلباً دينياً يتصل بالعقيدة ذاتها، فطلب العلم فريضة، ويجب أن يكون

المجتمع المسلم هو الأقوى مادياً لإنفاذ رسالة الإنسان على الأرض، وهذا لن يتأتى

إلا بالتقدم العلمي والتقني، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، غير أن العلم

التجريبي في نظر الإسلام ليس قادراً على كشف وتفسير كل أسرارالكون والإنسان، وهذا العلم يجب أن يوضع في حجمه الحقيقي وأن يوجه لنفع الإنسان، وهذا

يعني: أن هناك ضوابط عقدية وأخلاقية تحدد منطلقات العلم التجريبي وآلياته

وأساليب الاستفادة منه وتوجيه نتائجه. والمشروع الإسلامي لا يعد العلم هو الوسيلة

الوحيدة للسيطرة على البيئة أو استثمارها، ولا يعد الإمكانات المنظورة التي يكشف

عنها العلم هي الإمكانات الوحيدة المتاحة للإنسان وللعالم، فهناك سنن الله التي لا

تتخلف، وهناك عنصر البركة الإلهية والفتوحات الربانية والرزق الإلهي والأرزاق

المخبوءة التي لا ندركها، والتي ترتبط بالإيمان والتقوى؛ قال (تعالى) : [ولو أن

أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض]

[الأعراف: ٩٦] وإلى جانب عامل البركة هناك عامل فضل الله وتنزيله الرزق على العباد؛ [والله يرزق من يشاء بغير حساب] [البقرة: ٢١٢] وهناك عامل الطمأنينة وهي نعمة لا يمكن للعلم وحده أن يحققها قال (تعالى) : [الذين آمنوا

وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب] [الرعد: ٣٨] .

وهذا يعني أن المشروع الغربي بركونه إلى العلم المادي البشري أسقط عدة

أمور؛ أهمها أنه أسقط السنن الإلهية الماضية في المخلوقات، وأسقط قدرة الله

وقدره، وأسقط عاملي الاطمئنان والبركة الإلهية، وأسقط التوجيه الأخلاقي لنتائج

العلم ولمساراته ومضامينه وفق المنهج الإلهي، وهذه الإسقاطات أدت إلى شقاء

الإنسان في ظل مجتمع الوفرة والتقدم العلمي والتقني، وكأن وظيفة العلم هي زيادة

كمية المتعة والرفاهية المادية فقط، وهنا ينطبق على المؤمن بهذه الفلسفة قوله

(تعالى) : [والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم]

[محمد: ١٢] .

والعلم في المشروع الحضاري الإسلامي يرتبط بالمسخرات الكونية من جهة،

ويرتبط بقدرات الإنسان وفعالياته من جهة أخرى، ويرتبط بأساليب الانتفاع بهذه

المسخرات من جهة ثالثة، فإذا كانت علاقة الإنسان بالبيئة هي علاقة تسخير

وليست علاقة صراع كما صورها الغرب، فإن المسخرات الإلهية التي هيأها الله

للإنسان على قسمين:

الأول: مسخرات يحصل عليها الناس في كل زمان ومكان دون جهد كالماء

والهواء.

الثاني: مسخرات تتطلب جهداً بشرياً للانتفاع بها وفهم قوانينها وتوظيفها في

خدمة الإنسان والمجتمع، وهذه يتطلب الانتفاع بها: التعليم والبحث العلمي والعمل

والتطبيقات التقنية والصناعية، وهذه المسخرات الكونية أتاحها الله لجميع خلقه

مؤمنين وكافرين، فالكون ليس متحيزاً للمسلم وليس موجهاً ضد الكافر، فعطاء الله

في المجال المادي للجميع؛ [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان

عطاء ربك محظورا] [الإسراء: ٢٠] ، فالله (سبحانه وتعالى) يمكّن للجميع،

وهناك فرق كبير بين تمكين الله للمؤمنين وتمكينه للكافرين، فالأول تمكين رضاً

وقبول في الدنيا والآخرة، والثاني تمكين استدراج ولا يكون إلا في الدنيا فقط،

وكل أنواع التمكين يتطلب جهداً فاعلاً ومؤثراً من جانب الإنسان [٢] .

الجانب الخامس: من جوانب الخلاف بين المشروع الحضاري الغربي

والمشروع الحضاري الإسلامي يتمثل في تحديد محركات الحياة البشرية

والاجتماعية؛ فالمشروع الغربي يؤكد على المجتمع التنافسي وعلى الديموقراطية

والحرية الفردية، أو على تعددية الصراع في الاقتصاد والسياسة والاجتماع

والتربية، وهم في هذا ينطلقون من أن الموارد نادرة وقد تم إحصاؤها في العالم من

خلال العلم، وأن زيادة السكان عقبة تواجه باستمرار عمليات التنمية والتطوير،

وأن البقاء للأقوى مادياً، ويجب استمرار التنافس والصراع كآليات لتحقيق التقدم.

وهذا التنافس الصراعي ملاحظ على مستوى الأسرة والمجتمع في الغرب،

كما أنه ملاحظ على مستوى العلاقات الدولية بين دول الشمال والجنوب أو الدول

الغنية والفقيرة (محاولات السيطرة وفرض سياسات وثقافة الغرب على الدول النامية، وافتعال الأزمات لترويج تجارة الأسلحة، ومحاولة الضغط لتوجيه معدلات التبادل

التجاري العالمي لصالحهم، والحصول على المواد الخام بأبخس الأسعار،

واستخدام آليات الديون والقروض والتسليح والخبرات العلمية ونقل التقنية

والإعلام.. لخدمة أهداف الغرب المادية..) .

وفي المقابل فإن المشروع الإسلامي يؤكد على المجتمع التراحمي الذي ينطلق

من قوله (تعالى) : [إنما المؤمنون إخوة] [الحجرات: ١٠] وقوله -صلى الله

عليه وسلم-: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه [٣] ، مجتمع

الشورى والعدل والمساواة والتنافس الشريف في كل مجالات الخير والعطاء

والإنتاج، والمشروع الإسلامي يؤمن بالأسباب وبالعلم وبقدرة العقل على الفهم

والتفسير والإحصاء والتحليل والتركيب، لكنه يؤكد أن العقل والقدرة البشرية

محدودان، فهما لا يستطيعان حصر كل خيرات الأرض، فهناك مصادر أخرى

للطاقة وللغذاء سوف يتم اكتشافها، والأرض لا يمكن أن تضيق بسكانها لأن الله هو

الرزاق ولأنه هو (سبحانه) الذي بارك فيها وقدر فيها أقواتها، قال (تعالى) : [..

إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين] [الذاريات: ٥٨] ، وقال (تعالى) : [..

وبارك فيها وقدر فيها أقواتها] (فصلت: ١٠) وهذا يعني أن افتراض المشروع

الغربي أن الإنسان قادر على اكتشاف كل إمكانات الأرض، فرض لم يثبت صحته

على المستوى الديني، وأيضاً على المستوى العلمي التجريبي فكل يوم تكتشف

مصادر جديدة للغذاء والطاقة، وكل يوم يتم اكتشاف حقائق علمية وتطبيقات تقنية

تسهم في زيادة استفادة الإنسان من البيئة واستثمار معطياتها بشكل أفضل، الأمر

الذي يزيد مصادر الغذاء والكساء والطاقة ومختلف الموارد، وفوق هذا كله:

العطاء الإلهي والبركة وتوفيق الله، وهي عوامل لا يمكن حسابها من خلال الآليات

البشرية كالكمبيوتر، وعلى عكس المشروع الغربي: فإن المشروع الإسلامي لا

يربط التخلف بزيادة السكان، ولا يرى في هذه الزيادة معوّقاً حتمياً للتنمية،

فالقضية يتم النظر إليها من مناظير متعددة؛ فالسكان هم طاقة اقتصادية ومورد

أساسي من الموارد النادرة، وعامل رئيس من عوامل الإنتاج، بشرط حسن

استثمارها وتوجيهها وتوظيفها من خلال برامج التعليم والتربية والتدريب والإعلام،

وما تزال المناطق الصحراوية ومناطق الغابات والأراضي القابلة للزراعة تمثل

غالبية أراضي الدول التي تعاني مما يطلق عليه الانفجار السكاني، وما تزال في

هذه الدول طاقات وإمكانات وموارد يمكن استثمارها إذا أحسن استثمار وتوجيه

الطاقات البشرية، وهناك الإمكانات غير المحدودة للبحار والموارد المائية وهناك

العجز في استيعاب التقنية، والعجز الأكبر في استنباتها وتطويعها للبيئات المحلية،

وهذا يعني أن العديد من الدول تخلق مشاكل سكانية لنفسها (بطالة جرائم تضخم

زيادة نسبة الإعالة زيادة استهلاك إجهاض برامج التنمية ... إلخ) لا بسبب كثرة

السكان ولكن بسبب سوء التخطيط في الموارد البشرية وهجرة العديد من الكفاءات

العلمية والفكرية بسبب عدم تقديرها واستثمارها بشكل علمي مخطط، وعدم كفاية

النظريات التعليمية والتدريب، يضاف إلى هذا: أن هناك دولاً تعاني من نقص

الموارد البشرية وتقبل الهجرات وتضع عليها العديد من القيود، وهنا لا تصبح

المشكلة مشكلة زيادة في السكان، وإنما مشكلة توزيع وتنظيم للهجرة سواء الداخلية

أو الخارجية أو العالمية، وهذه ترتبط باعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية،

وحتى على مستوى الدول الإسلامية والعربية، فأغلب الدول باستثناءات قليلة مثل

مصر والجزائر.. تعاني من قلة سكان، وحتى هذه الدول المستثناة فإن الإشكالية

فيها في نظر بعض الباحثين هي تراجع معدلات التنمية وعدم كفاءة الاستثمارات

المادية والبشرية، وهناك تجارب تثبت أن أكبر الدول سكاناً هي أعلى الدول في

معدلات التنمية، والدليل على هذا أن معدل التنمية في الصين يصل إلى ١٣%

وهو أعل من معدلات التنمية في الكثير من دول الغرب.

وقد عالج بعض الكتاب هذه القضايا بشكل جيد مثل فهمي هويدي في مقالاته

بالأهرام القاهرية [٤] التي أورد فيها تأكيد الأكاديمية الإفريقية للعلوم في بيانها

بمناسبة الدعوة إلى المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الثالث في القاهرة في أغسطس

الماضي، أن السكان من أهم عناصر التنمية في إفريقيا، وأن محاولة تخفيض

معدلات نموهم يؤدي إلى إهمال موارد القارة وعدم الانتفاع بها.

وإذا ما انتقلنا إلى الديموقراطية في المشروع الغربي والشورى في المشروع

الإسلامي، نجد فروقاً جوهرية في العديد من الأمور، منها: حدود الديموقراطية،

والضوابط والمعايير أو الثوابت التي يجب الالتزام بها، وآليات تحققها، ونوعية

الأشخاص الذين لهم حق إبداء الرأي، فإذا كان الاثنان يتفقان في بعض الأهداف

مثل المشاركة وتجنب الاستبداد وتحقيق المصالح العامة، فإن المجتمع الغربي في

غيبة الثوابت الأخلاقية الفطرية يضل الطريق ويقنن الانحراف والفساد والضلال

في بعض المجالات الحياتية.

*ملاحظات ختامية:

وفي نهاية هذا العرض الاجتهادي أود أن أطرح بعض الملاحظات الختامية،

وهي:

أولاً: يجب التمييز بين معطيات المشروع الحضاري، وبين معطيات الواقع

الممارس، فالمشروع الحضاري الإسلامي كما عرضت له يُستمد في جانب الثوابت

من المصادر الشرعية، وفي جانب الاجتهاد من رؤية كل مجتهد، وهناك فرق بين

هذا المشروع الذي طبق فعلاً في بعض العصور مثل العصر النبوي وعصر الخلافة

الراشدة وبعض العصور الأخرى، وبين واقع المسلمين كما نراه اليوم، وبالمثل:

فإن هناك فروقاً كبيرة بين القيم الإنسانية المهمة المعلنة للمشروع الغربي مثل

تحرير الإنسان، وتحقيق المساواة بين البشر بغض النظر عن الاختلافات العرقية

واللونية والطبقية والمجتمعية، والمناداة بحقوق الإنسان، وضرورة المشاركة في

المسؤولية والقرار، وتداول السلطة ... إلخ، وبين واقع التطبيق سواء أكان ذلك

داخل مجتمعات الغرب أو في علاقاتها مع مجتمعات العالم الثالث، أو حتى في

علاقاتها مع بعضها البعض.

ثانياً: أن كل جوانب التقدم العلمي والتقني، والتقدم في بعض مجالات التقنية

الاجتماعية كالتخطيط والتنظيم والإدارة والتسويق ... في الحضارة الغربية، تنطلق

من الأخذ ببعض القيم الإلهية الداعية إلى العلم والتعليم والعمل والإنتاج والاستثمار

وتعمير الأرض ... إلخ، وهذه القيم سبق إليها الإسلام وطبقها المسلمون في بعض

العصور، فسادوا العالم وفتحوا آفاقاً واسعة في كل مجالات الفكر والعلم، وهي

ذاتها القيم التي عندما تركها المسلمون وقعوا في أسر التخلف والسيطرة الأجنبية

والتبعية للغرب.

ثالثاً: هناك أوجه إيجابية وأخرى سلبية في المشروع الغربي، وهناك أوجه

التقاء وأوجه اختلاف مع المشروع الإسلامي؛ وعلى سبيل المثال: هناك بعض

جوانب الاتفاق والاختلاف في الموقف من العلم والإنتاج والتقنية والمشاركة

والوقت ... بين المشروعين الحضاريين المذكورين، وهناك أيضاً تفاعل إيجابي بين المشروعات الحضارية، وقد كانت الحضارة الإسلامية أكثر الحضارات انفتاحاً وتفاعلاً مع الحضارات الأخرى المختلفة، ابتداءً من قبول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لتقنية حفر الخندق، وقيام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بتدوين الدواوين، ومروراً بعصر النهضة العلمية في العصور الإسلامية المتعاقبة وحتى اليوم، فتقبل كل ما يتلاءم مع مقاصد الإسلام.

رابعاً: كل الأفكار والنظريات والمداخل والمدارس المطروحة في مجال

التنمية تنبثق بشكل أو بآخر من خلفيات معينة هي التي تشكل أساسيات مشروع

حضاري معين أو آخر، ولهذا تتباين النظريات والمداخل والمدارس.


(١) يحيى هاشم حسن: الإسلام والاتجاهات العلمية المعاصرة: دار المعارف، مصر، ١٩٨٤، ص١٦٤ وما بعدها.
(٢) محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ.
(٣) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخية ما يحب لنفسه، وأخرجه مسلم، كتاب الإيمان، ح/٧١، ٧٢.
(٤) فهمي هويدي: هوامش على مؤتمر السكان والتنمية: الأهرام القاهرية، أغسطس ١٩٩٤ ص٩.