مصطلحات ومفاهيم
[الأممية]
أ. د. محمد يحيى
من الممكن القول بأن مصطلح «الأممية» في عموم معناه هو السلف
لمصطلح «العولمة» الذي أصبح الآن موضع الحديث عند المفكرين والكتاب في
كل المجالات، وهو في عموم معناه كذلك ينصبُّ على أي دعوة أو فكرة أو مبدأ أو
أيديولوجية تتجاوز في انطباقيتها الحدود المحلية الضيقة، أو حتى الإقليمية
الجغرافية واللغوية والثقافية، أو حتى الدولية الدينية والسياسية لتصل إلى مستوى
العالمية لمخاطبة عموم البشر في كل مكان، ووضعهم في الاعتبار عند التفكير
والعمل؛ بصرف النظر عن أي حدود سياسية وجغرافية وثقافية ولغوية ودينية
وما أشبه.
ومن المفارقة أن هذا المصطلح الذي سبق مصطلح العولمة اقترن على العكس
من الأخير بالحركة الشيوعية العالمية في دعوتها للعمال والطبقات الضعيفة
المسحوقة في كافة أنحاء الدنيا بأن تنهض للثورة على الاستغلال والاستعمار، أقول
للمفارقة؛ لأن المصطلح الابن وهو العولمة يقترن الآن بسيطرة وتوسع وهيمنة
نفس القوى الرأسمالية الطاغية التي كان مصطلح الأممية في مصطلح القرن
العشرين يستنهض الهمم العمالية والثورية لدحرها وردها.
و «الأممية» في الطرح الأوروبي ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً
تتعارض مع القومية والإقليمية الضيقة؛ لأن ارتباط هذا المصطلح بالفكر
الاشتراكي والشيوعي نقل إليه فكرة أن القومية ترتبط دائماً بالطبقات المالكة أو
البورجوازية التي يرفضها الفكر اليساري عموماً ويسعى إلى دحرها في حدودها
القومية والإقليمية الضيقة بفكر العالمية أي عموم وشمول واتساع نطاق الثورة
الشيوعية.
والواقع أن فكرة «الأممية» وبعيداً عن ارتباطها في مرحلة مهمة من
مراحلها بالفكر الاشتراكي الشيوعي أو بالأصح بممارساته العملية ودعواته وحركاته
الاجتماعية ترجع في أبعادها إلى عملية الانطلاق والزحف الأوروبي العام على
العالم منذ القرن الثاني عشر في حركة الاستعمار ثم الإمبريالية، وفي خضم هذه
الحركة بدأ الأوروبيون ينظرون إلى العالم كوحدة واحدة واقعة أو في سبيلها للوقوع
تحت سيطرتهم، وينبغي أن تتمشى مع عقائدهم وأفكارهم وقيمهم وتصوراتهم،
مثلما ينبغي أن تلتحق بهم وتصبح المسرح لنشاطاتهم، والمصدر لقوتهم الاقتصادية
ونموهم اللانهائي نحو مجتمع الرفاهية. في هذا الإطار أخذ الغربيون عموماً (وقد
ورثت أمريكا مركز الصدارة في هذه العملية فيما بعد) يفكرون ويتصرفون على
أساس أممي أي على أساس وجود ساحة عالمية عابرة للدول والبلدان والشعوب
والثقافات واللغات والقوميات يتحركون فيها، ومن هنا مثلاً كانت الحركة
التنصيرية الكبرى للكنائس الغربية (والمعروفة فعلاً باسم الحركة الأممية) تسعى
إلى تنصير شتى شعوب العالم على اختلاف عقائدها وثقافاتها الأصلية بالترويج
بينها لعقيدة مسيحية موحدة ونظام قيمي واحد موحد، ولم يثبت هذا التوجه الأممي
في الحقبة الاستعمارية بسبب تدخل التنافس الإقليمي أو بالأصح القومي للدول
الاستعمارية بريطانيا وفرنسا في المقام الأول، وقبلهما إسبانيا والبرتغال،
وبعدهما على نحو أقل ألمانيا وهولندا وإيطاليا، ثم على نحو أشمل بكثير أمريكا
وتنافسها على بسط نفوذها السياسي ومعه لغاتها وثقافاتها الخاصة على الدول التي
استعمرتها.
ولكن على الرغم من هذا التنافس القومي الحاد بين الدول الاستعمارية ظل
هناك طابع أممي واضح في الحركة الغربية الاستعمارية من حيث أن الثقافة العامة
والمفاهيم الفكرية والقيمية العامة التي روجت بين الشعوب المستعمرة ظلت هي
ذات الطابع الأوروبي العام الموحد في جذوره في المسيحية والثقافة الوثنية الأصلية
والمسار الفكري الأوروبي الموحد الراجع إلى عصور النهضة والتنوير والمصبوغ
بالفكر العقلاني الإنساني المادي العلماني.
وإذا كان هذا هو تاريخ مصطلح «الأممية» قبل تبني الحركة الشيوعية له
إلى حد أنه اقترن بها وصار صنواً لها؛ فإن تاريخه بعدها يتلخص في تحوله من
دعوة إلى الثورة العالمية إلى تعبير ووصف عن نمو وتوسع وانتشار المجتمع
الغربي الرأسمالي الليبرالي بثقافته وقيمه التي أخذت في التوحد؛ وذلك على
مستوى العالم كله بفضل الثورات المتتالية في وسائل المواصلات ثم الاتصالات؛
مع تعمق النفوذ السياسي الغربي في الدول المستعمرة السابقة وغير المستعمرة
بفضل نشوء نخب علمانية متغربة وصلت إلى مواقع السلطة، وتحالفت مع الغرب
ضد ثقافاتها وتاريخها الأصلي ولا سيما الإسلامي الذي أصبح يوصف بالتقليدي
القديم البالي، وهنا أخذ المصطلح يتحول تدريجياً ليصبح بمعنى العولمة بل اختفى
وأصبح منبوذاً بسبب ارتباطه السابق الوثيق بالحركة الشيوعية الساقطة والذاوية.
لقد أخذنا منذ الستينيات نسمع شعارات ومسميات من عينة «القرية العالمية» و «
العالم كالقرية الصغيرة» وما أشبه، وكانت كل تلك المفاهيم نقاط تحوُّل وذوبان
لمصطلح الأممية في مصطلح العولمة أو الكوكبية الصاعد، كما كانت علامات على
الانتقال من القديم إلى الجديد، ومن مضمون للدعوة والفكرة الأممية ينطوي على
دلالات ماركسية يسارية إلى مضمون يجسد الصمود والهيمنة الجديدة للنظام العالمي
الواحد والقطب الدولي الأوحد بمضمونه ونظامه الرأسمالي الليبرالي البراجماتي
الأمريكي الطابع.
ومن ناحية الإسلام فربما يمكننا القول بأنه دين أممي أو دعوة أممية بمعنى أنه
موجه لكل البشر وليس دعوة للعرب فقط كما تحاول بعض الأصوات الآن القول.
ولكن قد يكون من الأفضل تجنب مصطلحات مثل الأممية أو العولمة في الحديث
عن طابع الدعوة الإسلامية بسبب ارتباط هذه المصطلحات بمضامين تاريخية
ومعاصرة تتعلق بتطور الغرب نفسه وتطور أفكاره وفلسفاته وممارساته، ومما لا
شك فيه أن الإسلام أممي من حيث إنه لا ينغلق على قبيلة أو أمة أو شعب واحد
كالعديد من المعتقدات البشرية الوضعية؛ فهو دعوة موجهة للبشر كافة لكنه إذا
تابعنا وضع المصطلح ليس أممياً بمعنى الفرض والسيطرة الاستعمارية العالمية أو
الارتباط بحركة سياسية تدعي الثورية لإحداث انقلابات اجتماعية عارمة لصالح
فكر هو في النهاية (الماركسية) ابن أصيل للغرب وقيمه اللادينية المادية الغالبة.